كما يعرف كل متابع، الريال، كبقية عملات دول الخليج العربية، عملة صعبة. وكل عملة يمكن تحويلها إلى عملات أخرى بسهولة وفي أي وقت ومن دون أي تدخل من السلطات المُصدّرَة لها، هي عملة صعبة. وكلمة"صعبة"هنا مشتقة من صعوبة الحصول عليها من دون التخلي عن شيء ثمين آخر، على عكس العملات"الرخوة"التي تلجأ الحكومات المصدرة لها إلى مجرد طبع المزيد منها كما كان يفعل صدام حسين في آخر سنوات حكمه، وكما حدث ويحدث في جميع الأنظمة المستبدة. وفي نهاية المطاف، فإن"التعويم"لغير العملات الصعبة أمر متعذر. والمقصود بپ"التعويم"بالنسبة إلى العملات، هو أن تحدد عوامل السوق قيمة"العملة المعومة". أي إذا زاد المطلوب من عملة"معومة"فإن قيمتها نسبة إلى بقية العملات التي لم يزد الطلب عليها، سترتفع. والعكس صحيح إذا زاد المعروض من عملة لم يرافق زيادة المعروض منها زيادة في الطلب فإن قيمتها ستنخفض. ومن النواحي العملية، فإن العملات المعومة تُباعْ وتُشْترىَ في الأسواق الآجلة. أي يحدد قيمتها آنياً ما هو متوقع من المطلوب منها والمعروض في المستقبل. وهذا بدوره يخضع لعوامل أخرى كما هو متوقع عن تكاليف الاقتراض ونسبة النمو ومؤشرات اقتصادية أخرى. ولو لم يذكر"تعويم"الريال، اقتصادي حقيقي ممارس للسياسة النقدية والتحليل الاقتصادي المتقن منذ بضعة عقود، في قامة"الن قرين سبان"، لما كان من المستحسن الكتابة عن هذا الموضوع في صحيفة سيارة. فپ"قرين سبان"قال إن"تعويم الريال"قد يساعد في خفض نسبة التضخم. ولكنه أيضاً قال شيئاً آخر في غاية الأهمية، وهو أن تعويم الريال وغيره من العملات الخليجية قد يؤدي إلى خفض الأسعار حالياً، ولكن إلى متى يستمر تعويم العملات الخليجية؟ يقول"قرين سبان"محذراً، ولكن على دول الخليج أن تدرس"عواقب"تعويم عملتها على"المدى الطويل". هذا هو بيت القصيد، فپ"قرين سبان"أكبر وأعرف من أن يقول تعويم العملات هو الحل السهل والبلسم السحري الذي سيطفئ لهيب التضخم من دون تأثيرات سلبية أخرى في المستقبل. بالطبع لا يجهل لا قرين سبان ولا من هو اقل منه معرفة وتجربة بين المصرفيين والاقتصاديين، بأن تعويم عملات الخليج، سيؤدي في البدء إلى رفع قيمتها نسبة إلى بقية العملات. وهذا بدوره يوحي بتدني نسبة تصاعد الأسعار. ولكن هل سيخدم المصلحة الوطنية العليا لدول الخليج، بأن تتحول عملتها إلى مغناطيس لجذب المضاربين بحيث تزيد الضغوط عليها، تارة بين مشتر لها يزاحم المستثمرين المحليين ويرفع تكاليف الاقتراض، فتتدنى الاستثمارات الوطنية الخاصة والعامة؟ وفي فترات أخرى إذا كان هناك ما يوحي أو ما يخلق وهماً بعيداً عن الحقيقة بأي تهديد لمسارات ناقلات النفط الدولية، أو تهديداً معقولاً أو غير معقول لحقول إنتاج النفط، أو أي انخفاض على طلب النفط، لأي سبب يرى احتمال حدوثه المضاربون، فإن قيمة العملات ستنخفض فترتفع أسعار الواردات، ومعظم ما يستهلكه الخليجيون مستورد، وهلما جرا. والى اليوم، لم يحدث قط لا في الماضي القريب ولا البعيد، تعويم عملة صدرت في بلد نام ريعي. وتجربة"قرين سبان"محصورة في اقتصادات الدول المنتجة المتقدمة لا الدول النامية الريعية حتى لو كانت غنية نسبياً بسبب تصديرها لمادة ناضبة. صحيح أن الفرنك السويسري والين الياباني والإسترليني والدولار الأميركي والاسترالي والكندي، وغيرها من عملات الدول الصناعية المتقدمة وبعض من دول سريعة النمو لأسباب إنتاجية، حتى وان كانت الصين تقاوم تعويم عملتها، كلها عملات"معومة"تحدد قيمتها عوامل الأسواق الحرة. غير أن ظروف دول منتجة متقدمة أو دول منتجة سريعة النمو كبعض الدول الآسيوية، تختلف جذرياً عن ظروف دول"ريعية"نامية تعاني من قوة تدفق انهار جارفة من عمالة جاهلة مستقدمة من دول نامية فقيرة، كما تعاني من نقص اكتمال محاور التنمية الأساسية بما في ذلك النقص الشديد في توافر عمالة وطنية مؤهلة من كل النواحي. وإذا وازن المرء بين الجوانب الإيجابية والجوانب السلبية لتعويم العملات في دول الخليج العربية، وهي دول غنية مقارنة ببقية الدول النامية، ولكنها ما زالت دول تعاني من آلام النمو وتغيرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فإن الأفضل، بسبب أهمية استقرار قيم عملات الدول الريعية النامية، كما يرجح معظم الخبراء الخليجيين، بقاء ارتباط العملات الخليجية، بالدولار مادام الدولار يحتل المكانة التي يحتلها منذ نحو نصف قرن كعملة احتياط وثقل في التجارة الدولية. أما تغيير قيمة الريال نسبة إلى الدولار فقضية أخرى، قد يحدث أو لا يحدث الحاجة إلى تغييرها رفعاً أو خفضاً بحسب ما تقضي به الظروف السياسية والاقتصادية. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي