بوجه مكفهر أخذ ينظر نحو السماء، كأنه يحدق في حتفه، فقد ظن تلك البقع السود السابحة مع الريح، غرباناً! قاسم، الذي عايش مقتلة 13 كانون الثاني يناير وحرب صيف 1994، ظن"سرب"أكياس النايلون أو البلاستيك الطائرة فوق شارع الزبيري في صنعاء غرباناً... ربما كان يحدق في ذاكرته. فخلال حرب 13 كانون الثاني، روي أن أسراب الغربان كانت تحوم فوق الجثث المتعفّنة. إلاّ أن الأكياس السود والملونة المتطايرة في الجو، باتت مشهداً مألوفاً في سماء اليمن، ومدنه بخاصة. وعلى رغم تأكيدات المختصين بأن هذه"الأشياء"شديدة الخطر على البيئة، لاحتوائها مواد عصيّة على التحول، تبقى الأكثر طلباً لدى اليمنيين، أكثر من القات نفسه الذي يباع في مثل هذه الأكياس، ويُغسل فيها أيضاً قبل جلسات"الخزن"، فضلاً عن دور أكياس النايلون في الحياة اليومية لحمل الحاجيات ووضبها وتغليف الأطعمة ورمي القمامة... وهناك من يستخدمها لوضع المرق والسوائل على أنواعها، وبيع الأسماك الصغيرة للزينة... وقد يخلو فراش من وسادة، لكن يندر جداً أن يخلو منزل من أكياس النايلون. وتعزو الجهات المختصة تزايد انتشارها إلى طرح كميات كبيرة منها مخالفة للمواصفات، تصل عبر التهريب، أو من معامل محلية صغيرة يتعذّر ضبطها، لأنها تُنصب في أي مكان. وتشير التقديرات المتوافرة إلى استهلاك اليمنيين نحو 6.4 بليون كيس سنوياً. وكانت الحكومة اليمنية أصدرت عام 1998، قراراً يلزم المصنعين اليمنيين بأن يكون الحد الأدنى لسماكة أكياس البلاستيك المحلية 60 ميكروناً والمستورد 70 ميكروناً. إلا أن القرار لم يصبح سارياً بعد، كما أكّد مسؤول في جمعية حماية المستهلك ومصادر رسمية أخرى. والواضح أن تدني الوعي في مسائل الصحة والبيئة وتجاهل أهميتها في أوساط اليمنيين، سببان رئيسان لنشوء أخطار كثيرة غير خطر أكياس النايلون. ويسخر المجتمع ممن يسدي نصيحة في شأن خطر النايلون ومساوئه. حتى أن من بين أولئك الذين يتحلون بقدر من العلم والثقافة، من يبدي عبثية، عندما يشير إلى أن الخطر ومصادره"لم يعد يتوقّف على الأكياس، فاليمنيون محاطون بالمواد المضرة والمؤذية والفتّاكة، كمسحوق القات، وعدم تقيّد المصنّعين وسلعهم بمعايير السلامة والصحة، وأبرزها تحديد انتهاء صلاحية بعضها أو البطلان". ويبدو أن ثمة"لوبياً"للأكياس بدأ يركب موجة هذه الثقافة"اللامبالية"، ويتعمق نفوذه. ويشكو مسؤولون في جهازي الرقابة على المواصفات وصحة البيئة من عجزهم عن كبح جماح خرق المقاييس في إنتاج الأكياس البلاستيكية. وحتى أواخر الثمانينات من القرن الماضي ظل الاستخدام مقتصراً على أكياس الورق بلون"كاكي"داكن، وعلى أكياس النايلون الأبيض الصغيرة والمتوسطة، وقد استخدمت الأخيرة لحفظ مثلجات ال"آيس كريم"المصنوعة منزلياً وبيع المياه المبردة في المناطق الحارة، وبعض العصائر والخمور. ومنذ مطلع التسعينات، اكتسح كيس النايلون بأحجامه وأنواعه وألوانه المختلفة، الحياة اليومية. وإلى سنوات قليلة، ظلت الجهات المختصة تنصح السكان باستخدام أكياس بلاستيكية سود للقمامة والفضلات. وارتفع حجم الإنتاج المحلي منها من نحو 11 ألف طن في 2003، إلى أكثر من 17 ألفاً في 2005. إلا أن الأرقام الرسمية لا تشمل الكميات المنتجة محلياً من دون تراخيص. وكان الزنبيل المصنوع من سعف النخيل الأداة التقليدية لجلب الحاجيات من الأسواق. إلاّ أنه انحسر ثم غاب مع انتشار المنتجات الصناعية. وعلى رغم كشف بعض الخبراء والمختصين"الحالة الكارثية"للاستهلاك الكثيف للنايلون، لا تحظى مواجهة أضراره التي تلحق بالتربة والإنسان، باهتمام فعلي. وفي الآونة الأخيرة، أعلن عن مشروع"أكياس صديقة للبيئة"، يقول منتجوها انها صنعت وفقاً للمعايير البيئية العالمية، لأنها تتحلّل بصورة عضوية في الهواء والضوء أو في غيابهما، وتخلو من أي سموم، وهي تصحّ لتغليف الأطعمة وعبوات الحليب. غير أن ارتفاع ثمنها، بنحو 10 في المئة عن سعر كيس النايلون العادي، يحول دون انتشار استخدامها. ويُخشى أيضاً من ردود فعل المستفيدين من الوضع القائم. وأما وسائل الإعلام فتغيب عنها المواد التثقيفية في هذا المجال، شأنها في ذلك شأن المدارس التي لا تنشر التوعية أو تحاول تقديم وسائل بديلة للتخلص من الأكياس المستهلكة. عبدالمجيد فنان يعتقد أن في مقدوره، إذا ما أمتلك مليون كيس، أن يحولها أشكالاً زخرفيه، مشيراً إلى لجوء عدد من العمال العرب في صنعاء، الى إذابة المشمعات البالية وتحويلها أصباغاً. ولكن سالم باقحيزل، من هيئة البيئة، يعتبر منتجات حرق الأكياس البلاستيكية الشكل الأكثر خطراً. ويعزو باقحيزل خفوت نشاط التوعية في هذا الجانب إلى طبيعة الدعم الدولي الذي تنحصر أجندته في قضايا بيئية ترتبط بدول كبرى. سبق لليمنيين أن رفعوا شعارات عدة مثل"يمن بلا قات"، وپ"يوم بلا سلاح". ولكنّهم، وإن لم يفلحوا في تحقيقها، لم يرفعوا بعد شعار"يوم بلا أكياس"، أو"مدينة بلا أكياس"، ربما خوفاً من الفشل من جديد.