دأبت منال على"تهذيب"أطفالها الثلاثة بالزجر حيناً وبالضرب احياناً أخرى. صحيح انه ليس ضرباً عنيفاً، لكنه كان يؤلم الأطفال ويترك علامات على اجسادهم الصغيرة سرعان ما تزول بعد ساعات. إنه ضرب يشبه ذلك الذي كانت تضربه والدة منال وهي صغيرة، ويشبه كذلك الضرب الذي كان يتلقاه وليد زوج منال على يد والدته وهو صغير أيضاً. استمر الوضع على تلك الحال، الى أن حصل وليد على منحة دراسية لاتمام دراساته العليا في بريطانيا، وتحديداً في مدينة غلاسغو. توجهت عندها الاسرة كلها الى هناك، حيث كان مقرراً للزوج أن يمكث ثلاثة اعوام. وبعد مرور أشهر وبينما كانت منال تضرب الابن الاوسط كريم 8 سنوات على يده لأنه اخطأ في حل الواجب المدرسي، فوجئت بابنتها الكبرى مرام 12سنة تقول لها بثقة"هل تعلمين انه في امكان كريم أن يتصل بمن يأتي ليمنعك من ضربه، وحبسك إذا لزم الأمر؟". وقبل أن تفيق منال من صدمتها، بادرتها الابنة بزيادة في التوضيح:"ويمكن كذلك للجهات المختصة ان تأخذني وإخوتي لنعيش في مكان آمن بعيداً من خطرك". بعد زيارات متكررة للمدرسة، ومشاورات مع الزوج، واستشارات مع عدد من الاصدقاء العرب، عرفت منال ان ضرب الابناء ليس مسألة عائلية في الغرب، وأنه لا يعد امراً شخصياً بين الاهل والابناء، انه عنف موجه ضد الاطفال، وهو جريمة يعاقب عليها القانون. اسلوب متعارف عليه لكنه في مصر، شأنها شأن غالبية دول الاقليم العربي، اسلوب مقبول ومتعارف عليه لتأديب الاطفال وتعليمهم، وذلك بين مختلف الطبقات الاجتماعية والاقتصادية. والمقصود هنا بپ"ضرب الابناء"ليس الضرب بهدف الإيذاء، أو تحت تأثير الادمان أو الخمر، لكن بغرض التهذيب. والحياة اليومية في مصر تشهد ذلك النوع من"التهذيب"منذ آلاف السنوات من دون ان يعتبره المحيطون اخلالاً بحقوق الطفل، او خرقاً من الأب أو الأم لإنسانية الابن. بل العكس هو الصحيح، فعبارات مثل"ابنه ويؤدبه، لا تتدخلوا"و"البنت قليلة الادب، لازم تأخذ علقة ساخنة"تعد أمراً طبيعياً جداً. حتى ان الافلام والمسلسلات العربية تحفل بالمشاهد التي يؤدب فيها الاب او الام الابن والابنة بالضرب من دون ان يعتبر ذلك عملاً غير انساني. لعل اشهر المشاهد في ذلك الشأن كانت في فيلم"أنا حرة"وكان فيه الاب يضرب الابن حسن يوسف كلما رآه يترك مذاكرته ليعزف على الكمان. وكان رد فعل الابن هو التظاهر باستذكار درس التاريخ عن"هولاكو الذي كان رجلاً ظالماً، يحرق الحرث، ويضرب النساء والاطفال"كلما رأى اباه. وفي السنوات الاخيرة، تعاظمت صورة هولاكو هذه على المستويين المحلي والدولي. وكثر الحديث حول ضرب الابناء بغرض التهذيب باعتباره شكلاً من اشكال العنف الموجه ضد الاطفال. وبالتالي، ينبغي منعه والتصدي له بالقوانين والتدخلات من خارج اطار البيت، وهي قضية شائكة جداً في المجتمع المصري لاعتبارات عدة. فالعادات والتقاليد لم تعهد تدخل جهة رسمية، من شرطي او اختصاصي اجتماعي او حتى متطوع، في الشؤون الداخلية للاسرة. وكم من مرة استهجن المصريون العاديون الاتجاه السائد في الغرب الذي يشجع الطفل على رفع سماعة الهاتف وطلب رقم معين ليستغيث من تعرضه للضرب من الاوصياء عليه. من جهة اخرى، فإن استقدام مثل هذه الفكرة من الغرب سيدخل حتماً في نظر الكثيرين تحت بند"الاصلاح المفروض من الخارج". وأروقة المجلس القومي للطفولة والامومة تشهد منذ اشهر طويلة اجتماعات وورش عمل وحلقات نقاش تجمع كل مَن مِن شأنه أن يكون طرفاً في مسألة العنف ضد الاطفال: آباء وأمهات، واساتذة في علوم التربية ورجال شرطة، وقضاة، ومحامون ورجال دين مسيحيون ومسلمون، وأطفال، وذلك تمهيداً لتعديلات في قوانين الطفل، اضافة الى التحضير للمؤتمر الاقليمي حول العنف ضد الاطفال والذي يعقد في القاهرة يوم 26 حزيران يونيو 2005 لاستعراض دراسة الاممالمتحدة في هذا الشأن. وعلى رغم أن التعديلات المزمع اجراؤها والدراسة التي يتوقع عرضها تتعلّق بكل مناحي العنف ضد الطفل سواء في البيت، أم في المدرسة أم الشارع ام في النزاعات المسلحة أم في مؤسسات الرعاية إلا أن العنف داخل المنزل يبرز باعتباره اكثر انواع العنف حساسية. منظمة"يونيسيف"أوضحت ان العنف في اكثر الاحيان لا يترك علامات مرئية، ومع ذلك، فهو احد اخطر المشكلات المؤثرة في الاطفال حالياً. ويبدو أن مسؤولي"يونيسيف"كانوا يفكرون في العنف المنزلي، أو تعرض الاطفال للضرب من الاهل، حينما اشاروا الى"العنف المستتر". إذ قد لا يجد الأطفال القدرة على الإبلاغ عن أعمال عنف خشية التعرض للعقاب من مرتكب الاساءة ضدهم، وقد لا يرى الطفل ولا مرتكب الاساءة أي شيء غير عادي أو خطأ في اخضاع الطفل للعنف. بل قد لا يعتبرون اعمال العنف في حد ذاتها عنفاً على الاطلاق، بل ربما ينظرون اليها كعقاب ضروري له ما يبرره. وقد يشعر الطفل الضحية بالخجل او بالذنب، معتقداً أن العنف كان مستحقاً وكثيراً ما يؤدي ذلك بالطفل الى عدم الرغبة في الحديث عنه. وقد اوضح مسح اجرته"يونيسيف"في مصر أن 37 في المئة من الاطفال قالوا ان آباءهم ضربوهم أو قيدوهم، وان 26 في المئة أبلغوا عن اصابات مثل الكسور، أو فقدان الوعي، أو اعاقة دائمة نتيجة ضرب الاب او الام. خطوات عدة بدأت مصر تتخذها في الاشهر الماضية على المستويين الرسمي والمدني، الا ان السؤال الذي يطرح نفسه حالياً: هل الاسرة المصرية العادية مستعدة لتقبل تدخل"خطوط ساخنة"او اختصاصيين اجتماعيين أو"الشرطة"أو حتى"أهل الخير من الغرباء"في منع ما تعتبره الأسرة تهذيباً لأطفالها؟