كانت الرغبة جامحة لدى الإدارة الأميركية في أن ترتقي بحفل التنصيب الرسمي لرئيس الولاياتالمتحدة إلى مصاف الأحداث الكونية، لذلك سخرت الأموال وأجهزة الدعاية وتقنيات الإخراج الهوليودي بغية نقل الرسالة إلى الجميع، رسالة مضمونها أن الولاياتالمتحدة الأميركية قائدة العالم وأن رئيسها راعي البشر ومنهجها هو الحقيقة التي لا تجادل. هل يحوّل بوش الابن الحرية والديموقراطية أقنومين أيديولوجيين شبه توتاليتاريين على نحو غير مسبوق في التاريخ، كما كتب حازم صاغيّة في مقال دون رحمة الحياة، 2005-01-22، معرضا ببوش المتخذ هيئة المخلص والديموقراطية التي تقتفي خطى الأممية البروليتارية؟ لم تعد الإدارة الأميركية نفسها، على ما يبدو، تتحرج من أن تتهم بالتعالي، لأن القناعة أصبحت راسخة بكونها انتصرت، وأن عهود الشك قد ولّت، وصور الانسحاب من فيتنام أو الديبلوماسيين الرهائن في إيران قد اختفت نهائيا من الذاكرة، وأن الانتصار في حربين متتاليتين مع المحافظة على الازدهار الاقتصادي وعلى الأمن الداخلي للمواطنين ومع خسائر بشرية محدودة تحملتها الطبقات البائسة أو شرائح المهاجرين غير الشرعيين هو عمل جبار. وقد اعترف المواطنون الأميركان بذلك عندما أعادوا انتخاب بوش الابن بفارق كبير، بعد أن رضوا بالكاد به رئيسا في الدورة السابقة. كما سلّم العالم بذلك عندما عدّلت كل أطرافه ساعاتها على التوقيت الأميركي. لكن المشكل أن الانتصار لا يحظى لدى الإدارة الأميركية ولدى العالم بنفس التعريف. لو كانت شعوب العالم تسلّم أن بوش الابن سيحقق لها ما حققه لبلاده، من ازدهار ورخاء وسيطرة على مصادر الطاقة وصناعة عسكرية تمتص البطالة وأسواق استهلاكية وافرة بسبب سعي كل المصدرين إلى اكتساب الدولار، لو كان الأمر على هذا النحو لاستعد الجميع لمبايعة رئيس الولاياتالمتحدة إمبراطورا للأمم. لكن ليس مسلّما أن رخاء أميركا سيكون رخاء للعالم، وليس مستبعدا أن تكون سياساتها الخارجية جزءا من أزمات هذا العالم المتكررة والمؤثرة سلبا على نموّه واستقراره. ومن جملة المشاكل التي قد تفجرها أميركا، ولو عن غير قصد، القضية الدينية. فغياب هوامش الشك في خطابات السياسيين الأميركان يمثل في ذاته تحويلا للاستراتيجيا السياسية إلى ما يشبه العقائد الدينية، وقد رفضت السيدة رايس مؤخرا الاعتذار عن عبارة "من ليس معنا فهو ضدنا" نافية أن تكون قد قيلت تحت وطأة الصدمة ومصرّة على أنها عبارة صائبة غايتها أن تتعوّد كل الأطراف على تحمّل المسؤولية، كما أصرّت على أن الحكومة التي تنتمي إليها لم تخطئ في شيء عدا بعض الهنات التكتيكية. وكان خطاب بوش نفسه خطابا قويا في الانغلاق على قناعاته الذاتية، دينيا في ما تضمنه من مسحات التبشير ووعود الخلاص. وفي الوقت الذي يطلب فيه من الأديان أن تتكيف ومقتضيات الحداثة وتقبل بالفصل بين القناعات الإيمانية والقضايا المصلحية السياسية، تتوالى الأمارات المشعرة بتضخم دور الدين في السياسة الأميركية. فهل تصبح القضية الدينية مثل أسلحة الدمار الشامل، يسمح لأطراف أن تمتلك منها ما تشاء وتحاصر أخرى كي تتخلى عنها؟ لقد كان حفل التنصيب لافتا برمزياته الدينية، وبرزت من خلال العبارات التي استعملها الرئيس وطريقة الإلقاء القريبة من وعظ الإنجيليين وتكرار كلمة"حرية"بما يشبه الإيمان الروحاني اكثر منه التحديد الدقيق للغايات السياسية، فضلا عن لقطة الصلاة التي بدا خلالها الرئيس في هيئة خشوع تام، وكذلك بدا كل المدعوين حوله. لقد تنازعت، منذ سنوات، وجهتا نظر حول تفسير ظاهرة عودة الرموز الدينية إلى المجال السياسي في الولاياتالمتحدة. تقول الأولى إن ما يحصل ليس بدعا في تاريخ هذا البلد وثقافته، لأن العلمانية الأميركية مختلفة عن علمانيات بلدان أخرى من جهة أنها لم تنشأ ضد الدين ولا قامت لمحاصرة دوره في المجتمع. والدستور الأميركي لئن لم يتضمن أية إشارة إلى القضية الدينية فإنه قام على مبدأ الحرية، والحرية الدينية جزء من هذا المبدأ. وعلى هذا الأساس مثّل الالتجاء إلى الدين لمحاربة الشيوعية أمرا طبيعيا في مواجهة رآها الأميركان من زاوية انها مواجهة بين الحرية والكليانية. فاعتداء الأممية البروليتارية على حق الأفراد والشعوب في ممارسة قناعاتهم الدينية كان جزءا من اعتدائها على حرياتهم بشكل عام. وعلى هذا الأساس أيضا تمثل عودة الرمزيات الدينية بعد تفجيرات أيلول سبتمبر 2001 نتيجة طبيعية لعودة الشعور بالتهديد ولمواصلة الأميركان اعتبار المواجهة من نفس النوع، أي صراعاً بين الحرية والكليانية. فلم تبدأ ظاهرة خلط الدين بالسياسة مع بوش الابن بل هي متواصلة منذ الحرب الباردة، كما ليست بخاصة الجمهوريين ولا سببها قيام الحكومة الحالية على تحالف ثلاثي أحد أطرافه اليمين الديني، لأن أكثر رؤساء العهود الأخيرة تدينا هو الديموقراطي جيمي كارتر الذي كان يشتغل بالوعظ أوقات فراغه وهو رئيس البيت الأبيض الذي ذُكر مرة أنه حاول أن يقنع رئبس كوريا الجنوبية البوذي باعتناق المسيحية. أما وجهة النظر الثانية فتقول إن النظام السياسي الأميركي نظام براغماتي لا يعبأ كثيرا بالخلفيات الفلسفية، عكس ما هو عليه الأمر في أوروبا. فهو لئن قام على مبادئ الأنوار وكان آباؤه المؤسسون علمانيين في الغالب فإنه قابل أن يتحوّل جذريا عن أصوله وينسف شيئا فشيئا مبدأ العلمانية إذا خضع للضغط المستمر لمراكز القوى الدينية عليه. إن المذاهب الإنجيلية والخلاصية التي ما فتئت تتعاظم أدوارها وأتباعها، وإليها ينتمي بوش الابن نفسه، إنما تقوم على مبدأ التعبير التلقائي عن الإيمان، وتفترض من معتنقيها أن يعبروا للآخرين وفي كل لحظة عن النور الذي حلّ فيهم وغيّر مجرى حياتهم، كي تكون أعمالهم قدوة للآخرين وليشعروا من جهتهم بضخم المسؤولية الملقاة على عاتقهم. فبوش الابن إنما يتصرف مثل أي واحد من هؤلاء، سوى أن عباراته وتصريحاته تأخذ بعدا آخر بصفته رئيس أقوى دولة في العالم. ولئن لم يكن هذا مجال الموازنة بين وجهتي النظر فإن ما هو جدير بالتأكيد أن استعمال الرموز الدينية مرحلة الحرب الباردة والمرحلة الحالية يسفر عن وضعين مختلفين. ففي المرحة السابقة كان الطرف المقابل، أي الشيوعية، يتبنى بنفسه سياسة المعاداة للدين، ما يجعل المنافسة واضحة والمنتصر من يثبت أنه كان الأقرب لتمثيل رغبات العدد الأكبر من الناس، إن لم نقل الفطرة الإنسانية. أما في حالة اليوم فإن الطرف المقابل هو التطرف الديني الذي يقوى ولا يضعف إذا اتخذ الصراع وجهة دينية. وفي المرحلة السابقة كان الدين المتنازع حوله بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي المنهار من نفس المنظومة، أي أنه المسيحية عموما. لكن النتيجة مختلفة عند استعمال الرمزيات الدينية في سياق حضور منظومتين مختلفتين تجد كل واحدة منهما عسرا في إدراك رمزيات الآخر ولو دون تعصب. فأولى أن يتراكم سوء الفهم في حالات الأزمة فتنجح مساعي المتطرفين من كل جهة في تحويل الأديان إلى وظائف الاعتداء والعنف. هذه بعض ملاحظات شك منهجية لا ينتظر منها أن تكون ذات جدوى سواء أكان تنصيب الإمبراطور قد قدّ على مقاس القياصرة في روما العلمانية أم الأباطرة في رومية البزنطية، فالشك ليس من فضائل السياسيين، وهو صوت آت من البرية لا يمكن أن يغيّر ما يفرضه إمبراطور.