تعرفت بعبدالرحمن منيف في وقت مبكر من عمري، وجدته في "شرق الوادي" فأرعبني كثيراً. وحين انهيت قراءة تلك الرواية أقسمت أن لا اكتب حرفاً. كان التعذيب يقف بين الجلد والعصب، وفروة رأسي تأخذها مخالب القط الذي تفرد بها في كيس ضم الرقبة وقط يحاول النجاة من عصا المحقق فلا يجد إلا رأساً يعيث فيه فساداً بحثاً عن لحظة أمان. سال الدم من ذاكرتي بغزارة وحين أفقت من ألم التعذيب كان بطل الرواية مجذوباً للعودة الى الزنازين الرثة خشية على اخته واسرته الصغيرة.. منذ ذلك اليوم اكتشفت عذاب الكتابة وانها يمكنها ان تسلمك الى طريق ليس بالامين أو الرحيم. وفي "مدن الملح" كنت ابحث عن تاريخ سري وفي "الاشجار واغتيال مرزوق" وقفت على منحنيات جماليات الكتابة.. كنت أقول دائماً ان منيف ارتضى ان يظللنا بفيئه وهو بعيد عنا، فكيف ارتضت تلك الشجرة ان ترحل بجذورها وتزودنا بثمارها الناضجة من على بعد؟ كان هذا السؤال رومانسياً وفجاً. تكتشف هذا حين تدخل الى دهاليز الكتابة بينما خناجر مسننة تلامس جسدك وتحذرك من مغبة أن تقول ما يقال. حينها اكتشفت لماذا يرحل الانقياء الى جهات الارض وربما يقدرون على الاشارة او الايماء بأن ثمة خناجر مدببة تقف بين رأس القلم والورقة.. هكذا رحل منيف.. رحل غريباً كما عاش، هناك في الغياب، بعيداً عن المكان، كان يخرج دمه لآلة صماء تأخذ دمه لتصفيه من ملوحة الارض وتعيده الى جسده المنهك ليتذكر عمق الوحشة والبعد. هل كان على اديب فذ مثله ان يموت غريباً بعيداً عن رحم الارض التي انجبته؟ هل كان علينا ان نتبادل اخباره وهو يقتعد ارضاً تبعده عنا وتبعدنا عنه؟ ما الذي كان يمنع ان يكون تحت سماء ارضه وفي حضن وطنه، سيذكر التاريخ ان منيف ولد ورحل ومات غريباً.. وترك رسائل متبادلة في "شرق المتوسط" وفي"عالم بلا خرائط"، سيترك حروفاً تشير الى عذاب كان بالامكان ان يستريح منه في آخر ايامه.. هل كان ليحدث هذا؟ في الشهرين الماضيين كان الصديق محمد القشعمي يرتب لي موعداً في دمشق لرؤية منيف، وحين حان الموعد تراجعت ولم أرد رؤية بطل "شرق المتوسط" ولم أرغب في رؤية مخالب القطط التي نهشت وجهي حينما كنت اتعرف عليه لأول مرة.. اكتفيت برؤية وجهه عبر الصحف ومن خلال الالسن التي تروي عن حاله.. لم أشأ ان أراه معذباً مرتين: مرة في الكتابة ومرة بفعل المرض. رحل منيف وبقي منيف.. بقي عموداً ل"مدن" كان شاهداً على قيامها... المؤلم ان يرحل غريباً كما عاش غريباً، هذا الروائي الذي جدد فن الرواية العربية وساهم في إدخالها مرحلة الحداثة من غير ان يتخلى عن جذوره العربية