نستعيد البدايات ونحن إليها لأنها أصل الهوية من منظور محدد، أعني أنها نقطة الابتداء التي انطلقنا منها في موضع ما من قرية أو مدينة صغيرة أو مدينة كبيرة، ونظل نذكرها طوال أسفارنا عبر الزمان والمكان، تلك الأسفار التي مهما تبعدنا من مكان البداية وزمانه ترجعنا إليه، كأنه الإطار المرجعي الذي نقيس عليه مدى بعدنا منه، أو نوازن به درجات تبدلنا في علاقتنا بما جاء بعده، أو حتى في تبدل علاقتنا به هو نفسه، بعد أن حيل بيننا وبينه قسراً، فاغترب عنا، أو فرض عليه الاغتراب عنا نتيجة اغتصابه. و"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي عمل دال في هذا الاتجاه، فهي سرد لا مجال فيه للتخييل، ولكن حيوية المخيلة تتضافر مع توتر الذاكرة بما يجعل الخيال نفسه عملاً من أعمال التذكر، خصوصاً في المستويات التي يتجاوب فيها اغتراب العائد من منفاه وصور موطنه المغتصب الذي يغدو منفى جديداً يضاف إلى المنافي السابقة بفعل قوات الاحتلال، فلا يبقى سوى الرحيل مرة أخرى من وإلى "رام الله" التي تواصل منفاها القسري في شروط الزمان وعلاقات المكان. وسيرة إدوار سعيد الذاتية "خارج المكان" غير بعيدة من هذا الأفق من الاغتراب عن المكان، فدوافعها المباشرة تبدأ من المرض اللعين الذي كان لا بد من مقاومته بالكتابة عن البدايات، واسترجاعها بالذاكرة التي توهجت بماضيها، وفاضت بذكريات زمن لن يستعاد، زمن تقلب بين أضداده، وتضافر توتره مع تحولات المكان. وكانت النتيجة أن أصبحت الجغرافيا مركز الذكرىات المتدافعة عبر الذاكرة، خصوصاً جغرافيا الارتحال من مغادرة ووصول ووداع ومنفى وشوق وحنين إلى الوطن وانتماء، ناهيك عن السفر ذاته عبر أماكن تتحول في تأملها إلى شبكة كثيفة ومركبة من العناصر الجاذبة التي غدت عناصر عضوية في الوعي بالهوية. وإذا كان إدوار سعيد يصف الدافع الرئيسي في سيرته الذاتية بأنه الحاجة الملحة إلى تجسيد المسافة، في الزمان والمكان، بين حياته في الحاضر وحياته في الماضي، فإن هذا الدافع نفسه لا ينفصل عن اكتشاف الهوية المعقدة التي فارقت البعد الواحد الثابت، والتي اكتسبت خاصيتها المركبة في تتابع تحولاتها وابتعادها عن نقطة البادية، عبر الأزمنة والأمكنة المؤثرة، فأصبحت هوية تتكون من تيارات وحركات لا من عناصر ثابتة جامدة، ولذلك فهي هوية ذات تتشكل من جدل متصل بين ذاتين: عربية وأميركية. أولاهما هي الأصل المستعاد بالذاكرة، أو بالخيال الذي يغدو فعلاً من أفعال التذكر، وفق شروط فعل الاستعادة بالكتابة التي هي فعل استذكار. وثانيتهما هي الذات المضافة إلى هذا الأصل، متكونة من كل ما تفاعل معه بما أصبح عاملاً على تأكيده وليس استئصاله. والنتيجة هي الجدلية التي تتجلى فيما تستعيده الذاكرة لتضفر من حضوره الفاعل مع الأصل هوية حوارية لا تعرف الانغلاق أو أحادية البعد. وسواء كنا في دائرة الفلسطيني الذي لم يفارق هويته الفلسطينية، كما في حال مريد البرغوثي أو دائرة الفلسطيني الذي تزدوج هويته مع هوية أجنبية على نحو ينتج هوية أكثر تعقيداً، كما في حال إدوار سعيد، فإن مبدأ الهوية نفسه يظل باقياً في علاقته باستعادة البداية، والدافع إلى استذكارها، وذلك بما يفضي إلى دوائر أخرى، مشابهة أو مخالفة. دوائر ينطوي فيها حنين البدايات على مبدأ الرغبة في استعادة الأصل، أو مبدأ الرغبة الذي يؤكد الهوية التي تتهددها أخطار مبدأ الواقع الذي يجسده ابتعاد الأزمنة واختلاف الأمكنة التي تنأى بالذات عن جذورها التي تستمد منها نسغ الحضور وعصارة الوجود. وليس من المصادفة - والأمر كذلك أن نرتحل في الحياة لنتعرف هويتنا في رحلة من التعارضات، مدركين معنى البداية في نقائضها، ومعنى المتغيرات بالقياس إلى أصلها الذي فارقته، وذلك في حال من التحول الذي يظل منطوياً على العود المتكرر إلى الجذر الذي يؤكد الأصل، ويدعم الهوية في علاقاتها الخلافية بأضدادها. ومثال ذلك ما يمكن أن نراه في ما قاله أحمد عبدالمعطي حجازي في الخمسينات: أرأيت إلى ورق غادر شجره هل يستوطن شجراً آخر؟ أرأيت إلى امرأة حرّة هل تهوى إلا صاحبها الأول؟! وهو قول لا يؤكد حنين البدايات من ظاهر الدلالة وحدها، وإنما يبني الدلالة نفسها بما يؤكدها من حركة الطبيعة والكائنات، بواسطة التشبيه التمثيلي الذي هو نوع من قياس الأشباه على النظائر في محاجة القياس الشعري، ومن ثم برهنة العود على البدء بقانون من قوانين الطبيعة، إلى جانب قانون من قوانين البشر، ووصل القانون الطبيعي بما يبدو أنه قانون شعوري، وذلك في الإشارة إلى بعض ميراث الهوية الشعرية بواسطة التناص مع بيتي أبي تمام: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب إلا للحبيب الأول / كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل والمنزل الأول في بيتي أبي تمام كالحب الأول الذي يصل ما بين حجازي وسلفه القديم في تأكيد معنى العود على البدء، أو تأكيد رمزية الأصل في الدلالة المجازية لتلك الشجرة التي لا ترتحل أغصانها عن جذورها إلا لتعود إليها، مستمدة منها النماء، وحاملة إليها من الثمار والأوراق ما يزيد الوعي بالجذور، وما يجعل ارتحال الفرع عن الأصل ارتحال العاشق الذي يطلب بعد الدار ليقرب المعشوق. والعاشق في حال أحمد حجازي هو الشاعر الذي ارتحل من القرية إلى المدينة، وارتحل عن المدينة إلى أشباهها ليراها في حال من القرب، وإلى نقائضها البعيدة ليراها في حال من النأي، ولكنه ظل محتفظاً بنقطة البداية في القرية داخله، يتبعه دخانها كأنه علامة الهوية الأولى ومنبع الأصل والجذور. ومنذ أن فارق ذلك الشاعر عامه السادس عشر، وأدرك أنه تغير كثيراً، وأنه لا بد أن يتغير أكثر، وهو يزداد إدراكاً أن الساعة في الميدان تمضي، والزمن يعدو بالعالم، يصيب أكثر الأشياء وينال منها، إلا الحب الأول الذي لا يفنى ولا يتبدد، كالورق الذي لا يغادر أغصان شجرته، أو المنزل الأول الذي لا يمكن نسيانه، فالحب الأول ليس وهماً كما كتب إحسان عبدالقدوس في روايته "الوسادة الخالية" التي انبنت أحداثها لنقض مدلولات الحب الأول، وإنما هو حقيقة راسخة ثابتة، تشبه في رسوخها وثباتها أصل الهوية التي لا تتبدل ولا تتحول ولا تصبح غيرها قط، أو تنقلب على نفسها انقلاب النقيض على النقيض. هذه الرؤية الشعرية التي تجمع بين حجازي وأبي تمام تنطوي على زمنها الخاص الذي هو زمن دائري، زمن يبدأ من نقطة البداية، ويمضي بعيداً منها، ولكنه كلما تباعد عنها حنَّ إليها، كما لو كان يتحرك في ما يشبه الدائرة المتكررة التي تستعيد النقطة التي تبدأ منها دائماً، مؤكدة عودها المتكرر بالعود الأبدي لدورة الطبيعة التي وصفها البارودي بقوله: تغيب الشمس ثم تعود فينا وتذوي ثم تخضر البقول طبائع لا تغب مرددات كما تعري وتشتمل الحقول لكن هذه الرؤية الدائرية للزمن - قرينة العود الأبدي إلى نقطة الابتداء - تقابلها رؤية مناقضة، هي رؤية الزمن الصاعد إلى الأمام أبداً، الزمن الذي لا يرجع القهقرى، الزمن الذي لا يحن إلى جذوره، بل يندفع إلى مستقبله الذي يتحول إلى أفق يظل في حاجة إلى الكشف. والحنين إلى البداية وهم مع هذا النوع من الرؤىة، ووعي محافظ يسعى إلى الإبقاء على مبدأ الثبات الذي ينقضه مبدأ التغير، خصوصاً عندما تغدو إمكانات المستقبل الواعد هي الهدف، أو عندما يستبدل الوعي بالحنين إلى البداية رغبة اكتشاف ما لم يكتشف، ومعرفة ما لم يعرف، في مدى الإمكان الذي صاغه شاعر مثل ناظم حكمت عندما قال: أجمل أنهار العالم لم نرها بعد أجمل أطفال العالم لم تولد بعد أجمل أيام العمر لم تشرق بعد ويمكن أن يغدو هذا المدى هو مدى الرفض المتلهب للحاضر المكبَّل بشروط الضرورة، ومدى التطلع الدائم الذي يتجسد به معنى السفر من حيث هو تغير وتحوّل وصيرورة واندفاع إلى عوالم الممكنات المحتملة بمبدأ الرغبة لا مبدأ الواقع. وقناع "مهيار الدمشقي" الذي صاغه أدونيس، علي أحمد سعيد، أوضح تمثيل في ذاكرتي لمبدأ الرغبة الذي تجسّدت حركته ما بين التحول والصيرورة، فكانت حركة مندفعة إلى الأمام دائماً، صاعدة إلى ما لا نهاية، كأنها "الريح لا ترجع القهقرى، والماء لا يعود إلى منبعه"، فمهيار حضور وعي "يكتب الزمن الآتي على شفتيه"، ولا ينجذب إلى الماضي في توتر قاطرته ما بين قضيبين "ما كان - ما سيكون"، ذلك لأنه وعي استشرافي، مستقبلي يختار أن يمضي إلى الأمام ليتطلع دائماً إلى إمكانات "ما سيكون" صارخاً فينا: اتجه نحو البعيد والبعيد يبقى. هكذا، لا أصل ولكنني أضيء. إنني بعيد. والبعيد وطني.