تحمل مساحات واسعة من أجساد العمّانيين إمضاء الشمس البرونزي دلالة على انكماش اللباس الذي بات يحجب أجزاء قليلة من الجسد بملابس كثيرة الفتحات، تسمح بتسرب الضوء، وتسلل النظر، في مشهد يشي بالكثير مما يحمله صيف عمان 2003. وتتسم خطوط الموضة التي يعتمدها شباب عمّان بشحنات غربية، وتنويعات مشاغبة، في مجتمع محافظ رد برلمانه قانون الخلع، وتبنى قانون جرائم الشرف. يبدو الأمر وكأنه رسالة مرئية اطلقها الشباب من عمّان الغربية تحديداً وتشير الى نشوء تيار يتغذى بوجبات إعلامية فضائية دسمة، تروج للباس الخفيف المكشوف كمؤشر لتفلت المرأة من الاغلال الاجتماعية. هذه الوجبة الثقافية الجديدة قُدمت للعمانيين على مائدة العولمة مع الكثير من مقبلات "الانفتاح"، و"ثقافة الشباب" و"الهزيمة المعنوية". وتبدو عمّان الغربية الجزء الأكثر ثراء من العاصمة الأردنية منسجمة اكثر من غيرها مع الأذواق الوافدة، ويعود ذلك بحسب أستاذ علم الاجتماع الدكتور موسى شتيوي، الى انها "مجموعات تتفاعل وتتغير وتتقبل التنوع في الاتجاه والمظهر". ويرى أن "تفاعل المجموعات أنتج ثقافة الشباب التي تجتهد لإعادة صوغ المجتمع العمّاني فكرياً ومشهدياً، متخذة من اللباس المكشوف مدخلاً للتخفيف من سيطرة الضوابط الاجتماعية على سلوك الأفراد". ويضيف شتيوي أن "هؤلاء الشباب يعترضون على فكرة الاستدلال بالمظهر على الجوهر ويعتبرون الأخلاق وازعاً داخلياً لا علاقة له بتحصين القماش للجسد". ويشير إلى توجه الأوساط العمّانية الغربية نحو الفصل بين الالتزام الديني وطريقة اللباس، "فلا عجب أن تلتزم صاحبة البطن العاري أوقات الصلاة على اعتبار أن "الإيمان في القلب". وتتجاور في فسيفساء المجتمع العمّاني الغربي انماط غير منسجمة من الألبسة، في مؤشر على تنوع الأذواق والاتجاهات. فتشاهد مجموعة صديقات يتسامرن في "كوفي شوب" ترتدي إحداهن الحجاب فيما تلبس الأخرى ثياباً كاشفة. ويقول شتيوي "إنها ثقافة تأسست على الانفتاح الذي أتاحته ثورة المعلومات، وأدواتها التكنولوجية الستالايت، الإنترنت، الموبايل…"، لافتاً إلى أن "ازدياد أعداد الجامعات وفر مناخاً حيوياً لنموها، ورفدها بمناصرين يميلون الى الظهور في شكل يتوافق مع منظومتها الفكرية المنفتحة". ويخلص إلى أن "ظاهرة اللباس المكشوف في بلد محافظ يغلب التدين على طابعه، مؤشر على تغير اجتماعي أفرزته ثقافة الشباب، في حين أن تكثفها في عمّان الغربية مرده إلى الثراء الذي وسع نافذة الانفتاح". ويظهر أن لانتشار الملابس الكاشفة أبعاداً اقتصادية تتعلق بهيمنة جديدة تقودها استثمارات دولية، وشركات متعددة الجنسيات، وقوانين التجارة الدولية، وتقوم بالترويج لتصاميم وتشكيلات تقصي النكهة المحلية للملابس، وتتحكم بنحت الذوق وفق مقاييس عالمية، ساعدت على انتشارها التكنولوجيا يد العولمة الطولى التي استلبت خصوصية المشهد الأردني، وصبغت مزاج اللباس العمّاني بلون أكثر جرأة وشفافية، حتى غدت "المدرقة"، "والشرش" اللباس التقليدي للمرأة الأردنية مفردات "أجنبية" على آذان الشباب، فيما اعتلت "البرمودا ، والاسترابلس، والميني جيب" عرش الموضة العمانية. وفي هذا السياق يرى اختصاصي علم النفس الاجتماعي الدكتور محمد حباشنة أن "عمّان الغربية تقترب من مزاج العولمة، وتتأهب لاستقبال افرازاتها". ويلاحظ أن "مؤشرات "أسرة الأفراد" بدأت تلوح في افق ديموغرافية عمّان الغربية" وهي أسرة يعيش أفرادها تحت سقف واحد، إلا أنها فاقدة لمرجعية النسيج العائلي، ما يجرد الأبوين من سيطرتهما على سلوك أبنائهما، لا سيما في اللباس"، موضحاً أنها "إحدى سمات السرعة، بصفتها السمة التي تتصف بها الحياة المعاصرة، والتي حولت البيت إلى محطة فندقية لا يحتاج إليها الفرد إلا لقضاء حاجاته الحيوية". ويرى حباشنة أن لفورة الملابس المكشوفة علاقة "بالهزيمة المعنوية" التي لحقت بالأردنيين على طول المسافة الزمنية من انتفاضة الأقصى غرباً إلى سقوط بغداد شرقاً، مبيناً أنها "هزيمة استهلكت مشاعرهم ونالت من رصيدهم الثقافي، ما دفع الطبقة العمّانية الغربية الأكثر ثراء وانفتاحاً إلى تقمص الشخصية الاعتبارية للمنتصر، والظهور بمظهره، خفضاً لمشاعر التوتر النفسي، وإشباعاً لحاجاتها المحبطة". ويذهب حباشنة إلى أن "طيف الاستقلالية الذي يغازل تفكير الفتيات قد يدفعهن الى الإفراط في ارتداء الملابس المكشوفة تمرداً على اعتباراتٍ اجتماعية متواترة مجدت الحشمة". ويعتقد أن "التعرية الجسدية تعزيز للمعنى الأنثوي القائم على الإغراء"، ملقياً اللوم على "وسائل الإعلام التي عززت النظرة الى المرأة على أنها أداة اثارة محببة، في حين تتجاهل كيانها المتضمن معاني العفة والعمق النفسي والأخلاقي". وكانت فترة الستينات والسبعينات شهدت انتشاراً مماثلاً لظاهرة الملابس الكاشفة، جاء مواءمةً لواقع المرحلة المتنوع فكرياً على خلفية الحصول على الاستقلال السياسي، لكنها ظلت ظاهرة محدودة وغير مقبولة بدليل قيام متشددين في عمّان برشق بعض من اللواتي يرتدين "الميني جيب" بالحوامض. أما في الثمانينات ومع تنامي الحركات الإسلامية وطغيانها على المشهد السياسي والثقافي العربي، ومع تصاعد وتيرة الأزمات الاقتصادية، فرجع العمانيون إلى عباءة الحشمة وتزايد الضغط الاجتماعي المضاد للملابس الكاشفة. غير أن التسعينات وبدايات القرن الجديد اتسمت بضبابية جراء التغيرات الاقتصادية والسياسية، وهي فترة تزخر بالتناقضات المربكة. مرحلة أقحمت نهايات مفاجئة لمجريات محلية وإقليمية ورافقها اضمحلال قسري لتأثير التيارات الإسلامية سياسياً، بعد وصم عدد منها بالإرهاب، فضلاً عن أنها فترة تبلور ملامح تضخم التكنولوجيا وإفرازاتها العولمية التي دخلت الى تركيبة مزاج اللباس، ليتجاوز نمط اللباس وظيفتي الستر والحماية إلى كونهِ محصلة ثقافية للمجتمع العمّاني الغربي المنفتح والمدني والثري وربما المهزوم.