مرة أخرى يمكن الجزم بأن هذه الحرب المجنونة التي تدخل اسبوعها الرابع لا منتصر فيها، ولن يكون، بغض النظر عن الحروب الدعائية والإعلامية التي رافقتها وطغت على معاركها العسكرية والشعارات والخطابات والتظاهرات التي عبرت عن تطلعات الرأي العام العربي وأمنياته. فقد أثبتت معطيات سير المعارك منذ يومها الأول الى يومنا هذا، ليس خطأ الاستراتيجية العسكرية الأميركية فحسب، بل خطأ منطق الحرب ومنطلقاتها وأهدافها المعلنة والمبيتة. في المقابل لا بد من الاعتراف بخطأ النظام العراقي في معالجة الموقف منذ بداية الأزمة لتجنيب الشعب والوطن هذا الدمار الذي نشهده وإنقاذهما من مصير مجهول، وخطأ النظام العربي، إن كان هناك نظام عربي أصلاً، في منع نشوب الحرب، ثم عدم قدرته على توحيد الموقف العربي في مواجهتها ليس بالبيانات والتظاهرات والرفض والتنديد والشجب، بل بالخطوات العملية والمواقف الحازمة والاستراتيجية الواضحة. وما شهدناه من مقاومة عراقية يدعو الى الفخر والاعتزاز، ولكن كل هذا سيتبخر مع الأيام عندما ينقشع غبار المعارك ونتعرف الى حجم الدمارالذي لحق بالعراق وشعبه والخسائر البشرية والعسكرية والاقتصادية وانهيار البنى التحتية التي أقامها العراقيون بجهدهم وعرقهم وثرواتهم ورقة قلوبهم وتضحيات رجالهم ونسائهم وأطفالهم. وسواء نجحت الولاياتالمتحدة في تحقيق هدف إسقاط النظام العراقي أم لم تنجح، فإنها، جنباً الى جنب مع العرب، ستعاني آثار هذه الورطة وتداعياتها ليردد الجميع في النهاية شعار "نجحت العملية ومات المريض". لأن العراق هو الأساس وليس النظام، وأي تعريض بوحدته الوطنية وسلامة أراضيه ووحدتها وحقه في ثرواته وفي تقرير مصيره بنفسه سيؤدي في النهاية الى تهديد المصالح الأميركية وإشاعة الفوضى والدمار في المنطقة والعالم وفتح باب جهنم الإرهاب على مصراعيه ليحرق الأخضر واليابس. لهذا لا بد من إعادة النظر في كل شيء: من الاستراتيجيات الى الأهداف وحتى التفاصيل الصغيرة، ومن مواقف ألمع والضد الى المواقف المسؤولة التي لا بد من أن تسهم في إطفاء الحرائق قبل أن ينتشر لهيبها... ولا بد من تقريب يوم الحساب أميركياً قبل فوات الأوان بحيث يعود العقل الى العمل وتنتصر الحكمة ويعيد الجميع النظر في حساباتهم ويعزلون القوى المحرضة والحاقدة تمهيداً لاستئناف حوار بنّاء يعيد الى الأممالمتحدة دورها المطلوب ويقنع أهل القرار في واشنطن بأن نظرية الهيمنة سقطت مع انطلاق الرصاصة الأولى في هذه الحرب المجردة من غطاء الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن. أما يوم الحساب العربي فقد تأخر كثيراً، وأي تأخير جديد سيؤدي الى كارثة محتمة. ولهذا لا بد من قيام جهود عملية وجبارة لوقف مسيرة الانهيار والقضاء على آفة الشلل التي تدك مفاصل الجسد العربي وتحديد مواطن العلل ووسائل العلاج وطرق الخروج من هذا المأزق الخطير ومحاولة استعادة التوازن بتغليب العقل على العواطف والأعمال على الأقوال. ومجرد وقفة في يوم الحساب الآن الآن وليس غداً، واستعجاله قبل أن يفوت أوان العقل والحكمة قد تسهم في البحث عن مخرج أو حل يمكن أن يوقف نهر الدم وجبال الدمار. ولا بد من أن تبدي إدارة الرئيس بوش أولاً الرغبة والاستعداد، وحتى النيات، بقبول مخرج مشرف. ولا بد من أن تقف في يوم الحساب المطلوب لتدرك خطأها في التفرد بقرار الحرب وبالتسرع في شنها. ويجب أن تعترف أيضاً بالجريمة التي ارتكبها بحق جنود الولاياتالمتحدة وسمعتها، أفراد عصابة اللوبي الصهيوني الذين تسللوا الى مفاصل الإدارة الأميركية وتغلغلوا في مراكز صنع القرار ولا سيما في البيت الأبيض والبنتاغون ليزرعوا بذور العداء والحقد والكراهية ضد العرب. هذه العصابة التي حرضت على دق مسمار في نعش الأممالمتحدة وشن حرب انفرادية وأوحت لأصحاب القرار بأن الحرب على العراق ستكون سهلة وسريعة وخاطفة، لا بد من أن تدفع ثمناً باهظاً عندما ينكشف أمرها للرأي العام الأميركي. فقد سقطت نظرياتها وفشلت خططها منذ اليوم الأول وأثبت الشعب العراقي أنه مستعد للتضحية بكل ما يملك من أجل الدفاع عن الأرض والعرض، وأنه يفعل ذلك لا دفاعاً عن نظامه الذي اضطهده وظلمه ونهب ثرواته بل ليسجل له التاريخ انه لم يستسلم لمحتل مهما بلغت قوته. ومن بين سلسلة الأخطاء في الحسابات الأميركية لا بد من تسجيل النقاط الآتية: إن الحرب الحالية مختلفة عن حرب الخليج الثانية من حيث الأهداف والمنطلقات والظروف، فهي مجردة من غطاء الشرعية والدعم العربي والتعاطف الشعبي العراقي. وإن مقولة أن الشعب في الجنوب سيثور فور انطلاق شرارة الحرب سقطت منذ اللحظة الأولى، لأن الاستراتيجيين الأميركيين والمحرضين بالذات لا يعرفون شيئاً عن العرب وأسلوب تفكيرهم وردود فعلهم، كذلك فشلت الرهانات على ثورة الشيعة في الجنوب بسبب عدم الافادة من دروس التاريخ... أما الثقة بين الأميركيين والعرب فمفقودة لأسباب كثيرة، وما تعرض له العراقيون في الجنوب والشمال عندما ثاروا عام 1991 وتمردوا على نظام الرئيس صدام حسين علمهم درساً لن ينسوه أبداً بعد أن تخلى عنهم الجيش الأميركي وتفرج على قوات النظام وهي تفتك بهم وتذبح الآلاف منهم. أما يوم الحساب العربي فهو أمر ملح لا بد منه مهما كان الثمن لئلا يسقط الجميع مع سقوط العراق ونصل الى مرحلة لا ينفع فيها حتى البكاء على الأطلال. فالخطر داهم ولا مفر منه إلا بحملة إنقاذ آمل أن يسارع الى تبنيها عقلاء العرب لتحقيق الأهداف الآتية: 1 - إنقاذ ما يمكن إنقاذه من العراق ووحدة أراضيه وتجنيب شعبه المزيد من الخسائر وحقن دماء أبنائه بتبني مبادرة عملية وفاعلة تعيد الى الأممالمتحدة دورها وتمنح العراقيين فرصة أخيرة لتقرير مصيرهم بأنفسهم لاختيار النظام الذي يعيد إليهم كرامتهم وحريتهم واستقلالهم بعد أن ساقهم النظام الحالي الى المذبح بسلسلة حروب خاطئة وخطايا قاتلة ولم يعد أمامه للتكفير عن أخطائه سوى التنحي. 2 - تجاوز الخلافات التي رافقت المحنة الراهنة والتسامي فوق جراحها ومحاولة إصلاح الشرخ الناجم عن الغزو العراقي للكويت عام 1990، بعدما استدعت الأخطار الحالية تجاوز كل آثاره وتداعياته. 3 - محاولة إعادة بناء نظام عربي جديد يقوم على أسس متينة بعد أن ثبت فشل النظام القديم، هذا إذا كان هناك نظام عربي في الأساس. فلم نشهد من قبل وحتى يومنا هذا سوى فوضى عربية عارمة يُعتم على قباحتها في الأحداث الكبرى لتعود أقوى وأكثر ضرراً فور تواريها. 4 - تجميع القوى الدولية المناهضة للحرب، مع الدول العربية والإسلامية للضغط على الولاياتالمتحدة لوقف هذه الحرب. 5 - فتح باب الحوار مع الولاياتالمتحدة، على رغم الجراح، من أجل إيجاد مخرج يضع حداً لهذه الحرب وإفهامها بشتى الوسائل بأخطاء توجهاتها والخطر على مصالحها إذا امتدت هذه الحرب، وإذا حاولت توسيع رقعتها لتشمل سورية بعد أن تكررت التحذيرات وتوالت التهديدات الموجهة إليها. 6 - العمل بكل الوسائل على استعادة دور الأممالمتحدة السليب ليس بالنسبة الى قضية العراق فحسب، بل بالنسبة الى قضية فلسطين والشرق الأوسط ككل، وتشديد الضغط من أجل إيجاد حل عادل وشامل قبل أن يحصل المزيد من الانفجارات وتتهدد المصالح الدولية، والأميركية بالذات. 7 - تحصين المواقف العربية على مختلف الصعد، وإزالة أسباب أو دوافع الحساسيات وتعزيز صمود كل دولة على حدة وضمان حدودها واستقلالها. فالكويت مثلاً لا تلام على تحفظاتها ومخاوفها بعد أن تعرضت لغزو من شقيق وجار وأخ لم تبخل عليه بالدعم والمساندة في السابق، كما ان الشعب الكويتي معذور في مشاعره وهواجسه بعد أن أفاق في يوم من الأيام فوجد نفسه بلا وطن ولا مسكن ولا ملجأ وكان واثقاً من أنه لو ترك الأمر للعرب لما استعاد شبراً واحداً من أراضيه. وسورية مهددة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وشارون وعصابته يشحذون سكاكينهم والسعادة تغمر وجوههم وهم يستمعون الى التهديدات الأميركية، مع أن القاصي والداني يعرف أن سورية لا تستطيع أن تتخذ غير الموقف الذي عبرت عنه منطلقة من قناعاتها ودورها، كما يعرف أنها وقفت ضد غزو الكويت وشاركت في التحالف الذي حقق إنجاز تحريرها. كما انها تجاوزت كل جراحات الماضي مع النظام العراقي وبعد أن عانت الأمرَّين من مؤامراته على أمنها حرصاً منها على العراق وسلامة شعبه ووحدة أراضيه. أما السعودية فقد اتخذت الموقف المشرف الذي يدافع عن قضايا العرب والمسلمين ويحافظ على كرامتهم ويقف في وجه أي طامع أو معتد، واتخذت مبادرات عدة لتجنيب العراق الحروب والدفاع عن وحدة أراضيه وحقن دماء شعبه. فهذا هو قدرها، وهذا هو دورها في الماضي والحاضر والمستقبل. ومن هذه الأسس يمكن الانطلاق نحو مبادرة عربية شاملة تنقذ العراق والمستقبل العربي وتنتقل من حسابات يوم الحساب الى مرحلة العمل الجدي ومواجهة الاستحقاقات الخطيرة. فالشعارات لم تعد تفيد وناقوس الخطر يدق لينبه الى ما هو آت، وما هو منتظر من هذه الحرب... ويجب أن نعترف أولاً بأن مجرياتها لن تأتي كما تشتهي سفن العرب، والأفراح التي يقيمها البعض لإنجازات من هنا وهناك، على رغم ضروراتها لرفع المعنويات قد تتحول الى مأتم إذا لم تتوقف الحرب قبل سقوط بغداد. * كاتب وصحافي عربي.