تزامن المعرض الاستعادي لأعمال الرسام يحيى التركي في غاليري "دار الفنون" في العاصمة تونس، والذي يستمر حتى آخر الشهر، مع صدور كتاب شامل عن أعماله وضعته الناقدة عائشة الفيلالي دار سيريس التونسية. والتركي 1901-1969 هو مؤسس مدرسة الفن التشكيلي التونسية في بواكير القرن الماضي، والتي يعتبر شقيقاه الأصغران زبير وهادي من رموزها الحاليين. يعتمد أسلوب التركي على الصور الحميمة المقتبسة من البيئة المحلية بألوانها وأطيافها ووجوهها العربية، فرسومه ترفع الستار عن المدينة بسحر شوارعها وعبق أسواقها وأصالة دكاكينها. لكن عينه الفنية تتوقف عند الشخوص التي تتحرك في البيت والشارع على السواء لترسم المرأة التقليدية المنهمكة بغسل الثياب في فناء الدار، كما الباعة في أسواق المدينة العربية القديمة والتاجر في محله والحرفي العاكف على مشغولاته. ويمكن القول ان يحيى الحجام اسمه الحقيقي، والذي كان يلقب ب"التركي" لأنه ولد في اسطنبول، لم يعرف في طفولته سوى روائع الشرق المشرقي فاكتشف سحر الشرق المغربي مع مجيئه الى تونس بعدما اضطرته الظروف للانقطاع عن الدراسة ما أتاح له الاندماج في المجتمع. كان والده تاجراً من جزيرة جربة التونسية ووالدته تركية، الا ان ولعه بالرسم حمله على الاقتراب من المدرسة التشكيلية المعروفة باسم "الصالون التونسي" وهو استفاد من تجارب روادها الفرنسيين الذين أسسوا الفن التشكيلي في البلد. وضع الشاب اليافع قدماً ثابتة في عالم الفن سريعاً وعرض لوحته الأولى في "الصالون التونسي" في السنة 1923 الى جانب لوحات لرسامين كبار أتوا من فرنسا أو من أعضاء الجالية الفرنسية في تونس، التي لم تكن متحمسة للاعتراف بحرفية أي فنان من أبناء البلد. وكان يحيى التركي أول طالب تونسي تلقى دروساً في "مدرسة الفنون الجميلة" التي أقامها عالم الآثار الفرنسي لوسيان بواييه. لكنه لم يقنع بما وصل اليه وسافر الى باريس في السنة 1926 حيث صقل ريشته طيلة سنتين وشارك في "المعرض الاستعماري" ثم أقام معرضاً شخصياً في باريس سنة 1931 وآخر في نيس وحصل على الجائزة الأولى في مسابقة عن المعلقات الاعلانية. وبعدما انضم الى لائحة كبار الرسامين بات طبيعياً ان يشارك في تأسيس "مدرسة تونس للرسم" مع الفرنسي بيار بوشار في السنة 1948، لكن الأخير أسرّ ليحيى التركي في اعقاب حصول تونس على الاستقلال في السنة 1956 قائلاً: "الآن وقد أحرز بلدك استقلاله أحرى بي ان أسلمك مشعل الريادة"، وفعلاً غدا التركي رئيساً للمدرسة. الا ان مجايله الرسام علي بن الآغا أكد انه كان يعمل في صمت ولم ينسب لنفسه الريادة على رغم كونه "المعلم الأول". أما الرسام محمود السهيلي الذي ينتمي الى مدرسة لاحقة فقال ل"الحياة": "إن يحيى بدأ هاوياً وكان أول مسلم تعاطى الرسم في تونس، ثم أرسى مرحلة جديدة في مسار التجربة الفنية المحلية تجسدت بأعمال جيل بكامله من الرواد منح للفن التشكيلي في تونس شخصيته المميزة". لم يكن لدى التونسيين تقاليد قبل يحيى وكان ينبغي للرسام المتدرب في العشرينات من القرن الماضي ان يكون شديد الولع بالفن التشكيلي كي يصمد ويتخذ منه حرفة في أوضاع غير واضحة وبيئة تستهجن التصوير. مع ذلك كانت رسومه من النمط "الساذج" الذي يحاكي الواقع الاجتماعي في تجلياته المختلفة، ما حمل فناني الجيل اللاحق على الثورة والتجاوز، فاختار بعضهم المنحى التجريدي وبعضهم الآخر التكعيبي وبعض ثالث الحروفية أو ألواناً أخرى، ومن هؤلاء شقيقه هادي التركي وأمين ساسي وعبدالرزاق الساحلي ورشيد فخفاخ وحبيب شبيل وبديع شوشان وعمر بن محمود... رسم يحيى مشاهد من الريف والمدينة بريشته التي تشبه العدسة وتوقف عند تفاصيل حميمة عاود صوغها بطريقته المبدعة التي خلصت المخزون الاكاديمي من الحذلقة، فنقل لنا الاجواء الاحتفالية وبساطة الحياة الاجتماعية وألواناً من التقاليد والمظاهر التراثية والثقافية، اضافة لولعه بالعمارة . والطريف ان نقاداً وإعلاميين وضعوا كتاباً عن يحيى التركي العام 1972 في الذكرى الثالثة لوفاته تمهيداً لإحياء ذكراه... لكن الحفلة أرجئت الى ان صدر كتاب عائشة الفيلالي، أي بعد ثلاثين عاماً، فأقيم في المناسبة معرض استعادي لأعماله التي جمعت من وزارة الثقافة ومقتنيات بلدية تونس ومجموعات خاصة.