في شرحها وتصورها للحرب الأميركية الوشيكة على العراق تذهب المقالات والتحليلات الصحافية الكثيرة التي تُنشر حالياً الى اعتبار النفط ورغبة أميركا في السيطرة عليه مبرراً أولياً وذريعة رئيسة لتغطية هذه الحرب. لكن بعض الأقلام العربية تنحو، وفق تحليلاتها الأضيق والأكثر جزئية، الى جعل الحرب خدمة تقدمها أميركا لإسرائيل التي ترى في العراق وفي أسلحته تهديداً لها، خصوصاً أنها سبق أن قُصفت بعشرات من صواريخ سكود - بي في عاصفة الصحراء عام 1991. والواقع ان النظام العراقي، وعبر ايديولوجيته، قدم نفسه، ولا يزال يفعل، بصفته عدواً لدوداً لإسرائيل وللصهيونية، ولا تخلو خطب وتصريحات رئيسه ومسؤوليه من الإشارات الدائمة التي تدعو الى مواجهة الخطر الصهيوني وأطماعه وتنظر الى اسرائيل على أنها كيان مصطنع بالمطلق وتنادي بتحرير فلسطين من النهر الى البحر، وهو شعار سياسي وحربي لم تعد غالبية الدول العربية، بل كلها، تطرحه في الوضع الراهن للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. لا بد من أنه أمر غريب أن يرفع العراق هذا الشعار الذي يتطابق، وفق منطق مقلوب، مع الدعاية الإسرائيلية القائلة برغبة العرب في استئصالهم. من الغريب أن يفعل العراق ذلك في وقت تسود البراغماتية السياسية وتطغى على رؤية العرب والفلسطينيين أنفسهم للصراع في الشرق الأوسط، وفي وقت باتت الحدود المطلوبة لإحلال السلام هي حدود الرابع من حزيران يونيو 1967. التفسير الأقرب الى العقل أن النظام العراقي يتصرف طبقاً لأيديولوجيا بعثية صافية ونقية وإيماناً منه بنضال نظري يتسم بالنقاء السياسي، حتى لو أتى ذلك على حساب الوقائع التي تحدث على الأرض. النظام العراقي يتفادى ويتجاهل سنوات طويلة من المفاوضات التي نجمت عنها تفسيرات عدة، ما عاد خطاب إلغاء اسرائيل من الوجود يتناسب معها، وهذا ما يحول هذا الخطاب الى مجرد شعار يتضمن الكثير من الرومانسية السياسية. والأرجح أننا إذا أردنا أن نطابق بين معنى هذا الشعار وبين أفعال هذا النظام لبدا لنا أن تصرفاته هي أبعد ما تكون عن شعاراته. فباستثناء الصواريخ التي أُطلقت على إسرائيل، والتي ترافقت مع إخراج الجيش العراقي من الكويت، يكاد المرء يتأكد من أن طموح النظام العراقي كان موجهاً، معظم الأحيان، نحو أعداء آخرين من اختراعه. كانت إيران أحد هؤلاء الأعداء، إذ خاض العراق ضدها حرباً استمرت أكثر من ثمانية أعوام، بل لقد بدأت تلك الحرب عقب اللحظة الفارقة التي أعلن فيها الخميني، بعد انتصار الثورة الإسلامية، إسرائيل عدوة وأُحِلَّت سفارة لفلسطين محل السفارة الإسرائيلية. دخلت إيران الحرب مع العراق في الوقت الذي كانت تعلن صداقتها لقضية العرب الأولى وعداءها لأميركا وإسرائيل، وهما عدوتا العراق بحسب شعارات وايديولوجيا النظام الحاكم فيه. وحين انتهت الحرب بنتائجها المدمرة للبلدين راح صدام حسين يفتش عن حربه التالية. وكانت الكويت، الدولة العربية العضو في الجامعة، مادة تلك الحرب التي هزت أسس الوجود والتضامن العربي برمته وشككت في كل التراكم السياسي والاقتصادي والجغرافي والنفسي واللغوي مما ظننا انه يجعل أو قد يجعل العرب شعباً واحداً، بل حولت هذا التراكم من حلم يستحيل تحقيقه الى كابوس فعلي. والآن ها هو العراق، بسبب تصرفات نظامه نفسها، يواجه احتمال حربه الثالثة التي يرى الجميع انها حتمية. ثلاث حروب هي حصيلة حكم صدام ولا واحدة منها كانت ضد إسرائيل عدو العراق الأول، بحسب ما يقول هو بنفسه في ذلك الإعلان الذي تبثه "قناة "الجزيرة" بين حين وآخر ويعلن منه بصوته الواثق رغبته في تحرير فلسطين من النهر الى البحر! أغلب الظن أن ذهاب البعض الى أن حرب أميركا ستخدم اسرائيل صحيح لكن هذا، بحسب التاريخ الدراماتيكي لحروب صدام، يصبح هدفاً أميركياً وإسرائيلياً مضمراً، وتصبح الحرب، إذا وقعت، غير معنية بشعار العداء الذي يرفعه العراق لإسرائيل. الحرب ليست رداً على هذا الشعار، إنها أكثر تعقيداً واستراتيجية من البلاغة التي تحوله الى هباء أمام وضوح أو قسوة ما يجري ويعدّ حالياً للعراق وشعبه الذي يدفع وحده ثمن أفعال نظامه. لذلك فاعتبار هؤلاء المحللين أن هذا العداء هو أحد أسباب الحرب يصبح موضع شك عملي ويضع تحليلاتهم في المستوى النظري للشعار نفسه. فالعراق، طوال فترة حكم صدام، كان يرفع هذا الشعار ويخوض الحروب على جبهات أخرى، الى درجة أن المواطن العربي البسيط الذي ينتمي الى الشريحة التي يخاطبها الشعار يمكنه أن يرى أن إيران، التي جرّها العراق الى حرب طويلة لا نفع فيها، حاربت إسرائيل أكثر من العراق، وأن دعمها ومساهمتها في إنهاء المقاومة اللبنانية الاحتلالَ الإسرائيلي لجنوب لبنان يكاد يتساوى، في نتائجه العملية، مع كل ما رفعه النظام العراقي من شعارات نظرية ما زالت تحتاج الى أفعال تؤكدها وتضعها على المحك وتجعلها قابلة للتصديق.