لا أظنُّ أن عدمِ رسوخِ قصيدة النثر في مصر حتى اللحظة، على رغم تأصلِّها في أوروبا منذ ما يربو على قرنٍ وفي لبنان منذ زهاء نصف قرن، يعود إلى طبيعةِ اختلافِ شكلِ ومضمون القصيدة المصرية عن مثيلتيها في أوروبا ولبنان، وإنما يعود إلى أسبابٍ خارجة عن الشِّعر في شكلٍ خاص وعن الفنِّ في شكلٍ أعمّ، وإن تجلَّت تلك الأسباب في صورة استقبال الشعر وألوان الفنون بل وفي نحت الذائقة المستقبِلة للمتلقي عموماً والناشئة بخاصةً. حين أُبرِّئ القصيدةَ المصريةَ نفسها من تَبِعَةِ الصراعِ الدائرِ حولَها، فأنا أعني بالتأكيد الجيّدَ منها، لأن قصيدةَ النثر، شأنها شأن كل فنٍّ، تحوي الجيّدَ والرديء، وأرمي إلى أن جذورَ الصراع حولها تشتبكُ مع طبيعة البِنية الفكرية المصرية، اجتماعياً وسياسياً ودينياً. هذا الصراع الذي بلغ حدَّ الاختلاف حول المسمى والمصطلح، الأمر الذي يدفع بالشعراء والنقاد إلى الغرقِ في السجالات والتراشق في محاولةٍ إما لانتزاع مشروعية لهذا اللّون الجديد، وما هو بالجديد! أو للكفاح من أجل وأده واستئصاله قبل أن تتفاقم خلاياه المريضة شأن الجرّاح مع الوباء السرطانيّ. تلك السجالات التي صرفت المبدعين عن العمل على تطوير مشروعهم من أجل الخلوص إلى قصيدة نثر مصرية تحمل ملامحَ مميزةً على المستوى العربيّ والعالميّ، وعوضاً عن ذلك، زجّت ببعض الشعراء في أحبولةِ الشعور بالذنب لارتكابهم هذا اللونَ الأدبيّ ذا الإشكالية المتقاطعة مع الموروث الشعريّ والديني، ونما في دواخلهم أنهم إنما يتعاطون جنساً غير مستقرٍّ وغير مشرَّعٍ لهم من الأصوليين، وكأنهم يأتون أمراً إداً فجنح البعض، وأنا من بينهم، إلى تسميةِ قصائدهم "نصوصاً" مخافة أن ينبري أحدهم قائلاً "فلتسمِّ الأشياءَ بأسمائها!" إذا تجاسر شاعرٌ وأطلقَ على ما كتبَ "قصيدةً". هذه "المخافة" أو "الشعور بالخطيئة" هي المفتتح الذي أودُّ الولوج عبره إلى أسباب تلك الصراعات، وهنا ألمح إلى الربط السلفيّ التعسفيّ غير المستندِ الى منطقٍ بين لغة الشِّعر واللغة الدينية أو بالأحرى بين الشعرِ في صورته الخليلية التقليدية والنصِّ الديني، الأمر الذي يعطي معارضي قصيدة النثر قوةً ومشروعيةً في الهجوم على هذا "التمرد" بصفتهم يتكلمون باسم السلف التراثيّ الصالح، تماماً كما اتهمَ رجالُ الكنيسة وهيئةُ التفتيش في القرن السابع عشر "غاليليو" بالمروق من الدين حين تجرأ وزعم أن الأرضَ تدور. لعل ربط الشعر بالأصل الديني كان من تجلياته السلبية اعتبار أي تجديد في شكل أو مضمون القصيدة لوناً من خدش اللغة الدينية. ومن هنا يمكننا ان نفهم سبب صمود عمود الشعر على حاله طوال هذه المدة الفلكية حتى عاصر قيام ممالك، وانهيار حضارات، وحروباً كونية، وعصوراً وتحولات، بل وشهد تبدلاً وتغيراً في شكل الكوكب ذاته جغرافياً وجيولوجياً وكوزمولوجياً، في حين ظلّ هو - العمود الخليلي - مقاوماً ومتحدياً الزمن وكأنه هرم صلد يحيا خارج الزمن - بتعبير صلاح عبدالصبور - وعلى رغم الزمن. وبدا الثابت الأوحد ضمن المتحولات، ولم يستجب للبعد الرابع الذي انحنى له الثابت التاريخي الأشهر وهو الضوء وسرعته بعدما انتشله أينشتاين من فرادة المطلق الى شمولية النسبي، ليحتل مكانه في المطلق هذا العمود العنيد وليغدو مطلقاً سرمدياً لا مجرد شكل من الأشكال أو الاقتراحات لنوع من الفنون. ومن تجليات هذه الوشيجة الشعر - دينية أيضاً، الحكم على الأدب عموماً من خلال البُعد الأخلاقي والمنظور الديني مع إن جوهر الفن في ألف بائه هو التمرد والتصادم مع كل ثابت وكل مستقر لينطلق العقل من إساره ورتابته، ويخترق ممالك ويوتوبيات جديدة، الأمر الذي جعل من قصيدة النثر اجتراء وتمرداً على حال السلام الشعري السلفي التي صمدت قروناً. التكريس المستمر للشعر التقليدي سواء في الميديا التعليمية أو الإعلامية يعني استمرار تلك الصراعات إلى أجل غير مسمى، لأنه ينحتُ ذائقةً تقليديةً في الأسماع الحالية والمقبلة أيضاً حتى تتجذر دوغما الربط بين الشعر والوزن الخليلي تحديداً لا الموسيقى بأشكالها الأرحب حتى ولو على نسقِ ألفية بن مالك. إن التكريس الدائم للثنائيات التاريخية من قبيل: الشعر - الوزن، من شأنه تعطيل قدرات العصف الذهني للبحث عن الجديد وكسر المستهلك والبقاء في فلك المكرور، الأمر الذي لا يحصل في لبنان مثلاً وهو نجح إلى حدٍ بعيد في إقامة مجتمعٍ مدنيّ قائمٍ على سوسيولوجيا التعدد على رغم تكسّر أجزائه على صخرة الحروب الطويلة، هذا المجتمع الذي يمارس التعددية بصفتها أحد أهم ملامح المجتمع الحقيقي القائم على رؤية الآخر باعتباره نعيماً إذا اختلف، جحيماً إذا ائتلف. مشكلة قصيدة النثر في مصر كائنةٌ بصورةٍ أو بأخرى في معظم المجتمعات العربية التقليدية والتي تكرّس سيادةِ الهيمنة السلفيّة. غير أن الحكم على لونٍ فنيٍّ جديد لا يكون موضوعياً إلا إذا نال ما ينبغي له من مساحةِ نورٍ تمكِّن الراصدَ من الحكم له أو عليه بعد رؤيته بجلاء من زواياه المختلفة. إن تغييب قصيدة النثر عن مناهج التعليم ينتج ناشئةً لا يعرفون أمراً عن هذا الجنس الأدبيّ المستقر عالمياً منذ دهرٍ، وبالتالي فهم ينظرون إليه - إذا صادف أن قرأوه عن طريق الخطأ - نظرةَ الشكِّ والارتياب بصفته رجساً من عمل الشيطان، لأن الإنسانَ عدوٌّ لما يجهل. وسينبري قائلٌ بقوله: هل يمكن أن نعلّم أبناءنا الإباحية المتحللة من المُثل تلك التي انتشرت في قصيدة النثر؟ وسأرد عليه بالردِّ الذي يعلمه هو يقيناً ويغيّبه، إن خرقَ الحصون والمحرمات ليس وقفاً على قصيدة النثر، ولكنه لازم الشعر القديم منذ نشأته، والحكم على لونٍ أدبيٍّ جديد، وعلى رغم عدم جِدتّه، يكون بالنظر إلى الجيد منه، فليس من الحكمة أن نقارن بين أفضل ما كتب المتنبي كنموذج للشعر العموديّ، أو صلاح عبدالصبور كنموذج للشعر الحرِّ، بأردأ ما كُتِب في قصيدة النثر. أما القول بأن قصيدة النثر فتحت الباب للمتشاعرين ليكتبوا ما عجزوا عن كتابته بعد أن تخففوا من العَروض، أقول أولاً: إن المتشاعرين أو مدّعي الشعر لازموا الشعرَ منذ الأزل وتفعل مصفاةُ التاريخ فعلَها من تنقيةٍ دائمةٍ لتستصفي الجيّدَ - وحدَه - لذاكرة التاريخ، ثانياً: إن علم العَروض هوَ من أسهلِ العلوم، ومن نجح في تعلّم الرياضيات في مدرسته الابتدائية والإعدادية والثانوية يستطيع تعلّم العَروض في يومين. هذا إن اتفقنا أن الشعرَ عَروضٌ. بل إن قصيدة النثر في ظني هي المختبر الفعليّ الذي يضع شاعرية شاعرٍ على المحك الفعليّ، حيث لا عكازاتٍ ولا دروع يتخفى وراءها مدّعي شعر ليمررَ للمتلقي غير المدرب ركاكةَ نظمٍ من خلال انتظامٍ موسيقيٍّ أجوف. يدخل الشاعر قصيدة النثر أعزل مجرداً من كل أداةٍ تمكّنه من بناء قصيدته سوى الشعرية المحض، فإما استوت قصيدته على طاقتها الذاتية من الشعرية وإما هوت منهارةً غير مأسوفٍ عليها. ثالثاً: إن منجزنا الشعري العربيّ من العموديّ والحر أثرانا بالكنوز والدرر الثمينة التي في وسعها أن تحملنا دهوراً وتكفي ذرياتنا قروناً مقبلة، ولن نأتي بمثل ما جاد به عظماء الشعراء منذ المخضرمين وحتى أحمد عبدالمعطي حجازي. ألا يكفينا هذا لنفسح الساحة قليلاً للون جديد، وما هو بجديد، فقط لنعطه فرصة التنفس قليلاً تحت سماء لا غيمةَ سوداءَ فيها ولا تعتيمَ إعلامياً، علّه - لو وهب بعض نور ومشروعية - أن يقدم جديداً؟ لعل المناداة بقيام مجتمعٍ مدني - فعليّ - في مصر والبلاد العربية و انتهاج سوسيولوجيا التعدد وعدم نفي الآخر، لم تعد ترَفاً بصفته حُلماً بعيدَ المنال، لكنه ضرورةُ حياة لكي ترتقي الفنونُ كلها وتتحررُ العقولُ المستنيرة التي في وسعها فعل الكثير لبلدها وللكَون، عبر الاعتراف بالتنوّع والتعدد في الفكر والسياسة والاجتماع والفنون على السواء.