وقفت منال 24 عاماً في طابور طويل من النساء أمام نافذة زجاج كتب عليها "تسديد رسوم طلبات الجنسية لابناء المصريات". ملامح وجهها كانت منفرجة الأسارير والسعادة تقفز من عينيها على رغم تواضع حالها البادي من ملابسها. وحين سألتها "الحياة" عن جنسية زوجها، قالت بأسى شديد: "هندي يا حبيبتي هندي"، واستطردت "عذبني وبهدلني، حتى أطفالي لا يتكلمون سوى الهندية". منال واحدة من آلاف من النساء المصريات المتزوجات بأجانب اللاتي أقمن الافراح منذ كلف الرئيس المصري حسني مبارك وزير الداخلية المصري بمنح الجنسية المصرية لابناء الأم المصرية المتزوجة من أجنبي، وفقاً للضوابط المقررة في القانون القائم، وذلك في كلمة ألقاها في ختام المؤتمر السنوي الأول للحزب الوطني قبل أيام. "قضية ابناء المصريات"، ثلاث كلمات حظيت باهتمام واسع خلال العقد الماضي. طرحها الإعلام، وناقشها النواب من حين الى آخر، وتناوبت على تحريكها المنظمات غير الحكومية والاهلية فيما أبطال القضية الحقيقيون يعيشون المعاناة... إنهم الأمهات المصريات، والابناء من أب غير مصري، وأسرة الأم الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة. وتعاني المصريات المتزوجات من اجانب الأمرين من أي اجراء رسمي سواء لالحاق الأبناء في المدارس أو لعلاجهم أو للإفادة من فرص العمل المتاحة وغير ذلك. آلاف من الأبناء المولودين لأمهات مصريات وآباء اجانب عاشوا وكبروا وانخرطوا في المجتمع المصري على مدى عقود. شربوا مياه النيل، وعاشوا حياة المصريين بحلوها ومرها. اقاربهم مصريون، واصدقاؤهم مصريون، لكنهم ليسوا مصريين. تعيش زبيدة في أحد احياء القاهرة المفرطة في الشعبية. تعدى عمرها ال40 عاماً. تزوجت بإبن الجيران الذي نشأ وتربى معها في الشارع نفسه، كانت تعلم انه يعيش مع أمه واخواته لان والده سافر خارج مصر ولم يعد. وحين علمت يوم زواجها ان عريسها لا يحمل سوى وثيقة فلسطينية، لم تفهم مغزاها. وبعد العرس بأيام علمت ان والد عريسها كان فلسطينياً، وبالتالي لم يحصل الابناء على جنسية والدتهم. "وقتئذ لم افكر في تبعات ذلك، فهو مصري الى النخاع يتكلم بلهجة مصرية، ويتصرف كأي ابن بلد مصري، ولم اقدر حجم المشكلة إلا بعد ولادة ابني الاكبر محمد، وتحديداً حين بلغ سن دخول المدرسة. واجهت كمّا هائلاً من التعقيدات واضطررنا الى دفع مبالغ تفوق ما يدفعه الجميع بأضعاف. ثم تكررت المشكلة مع ابنتيّ يسرا وهناء". ولأن زوجها لا يعمل عملاً دائماً، "اضطررت الى التوقف عن ارسال البنتين الى المدرسة بعدما أتمتا تعليمهما الاعدادي". وتظل مشكلة زبيدة أهون من مشكلات المصريات اللاتي غاب عنهن أزواجهن. في منطقة "الحوامدية" التابعة لمحافظة الجيزة، على سبيل المثال، مئات من النماذج الصارخة عن المشكلات التي تواجهها المصريات المتزوجات من أجانب، واغلب اولئك رجال خليجيون. ففي اعقاب تطبيق سياسة الانفتاح في عصر الرئيس الراحل انور السادات، زادت أعداد السياح العرب القادمين الى مصر. وكانت نسبة كبيرة منهم تعود الى بلادها ومعها حقائبها وزوجة صغيرة غير متعلمة أحياناً او حاصلة على قسط بسيط من التعليم. وبعد اشهر تعود الزوجة الى قريتها حاملة طفلاً وورقة طلاق. واحياناً تقتصر حمولتها على الطفل فقط بعد طردها وسلبها حتى حقها في الطلاق، لتفقد بذلك حقها في الزواج مرة اخرى. وفي المقابل نماذج اخرى من المصريات المتزوجات بأجانب، واللاتي لا يواجهن عقبات، باستثناء المشكلات اليومية المعتادة. وأغلب تلك الزيجات يقوم على الحب والوفاق، ونسبة منها تعقد بين مصريات ورجال من جنسيات اوروبية او اميركية. في كل الأحوال، لا يمنح القانون المصري الجنسية لابناء المصريات المتزوجات بأجانب، بصرف النظر عن اقامتهم في مصر او عدمها، ويعاملهم على انهم اجانب في جميع اجهزة الدولة. ويدفعون الرسوم المقررة على الاجانب في الجامعات والمدارس والمستشفيات والنوادي وغيرها، وغالبيتها رسوم باهظة، تحتسب بالعملة الاجنبية. معاناة تلك الأسر المختلطة عمرها عشرات السنين، وفي السنوات الأخيرة، علت الاصوات المطالبة بإنصاف الأم المصرية وابنائها، وبمعاملتها أسوة بالرجل المصري الذي في حال زواجه بأجنبية، يولد الابناء مصريين، كما يحق للأم التقدم بطلب للحصول على الجنسية المصرية. والقضية بالغة الحساسية، فكلما طُرحت للمناقشة تُطرح معها مسائل الأمن القومي. فمنح الجنسية لأبناء من أب غير مصري يتيح انضمام الابناء من آباء عراقيين وسعوديين واميركيين وكويتيين وفلسطينيين واسرائيليين فلسطينيي 48 الى صفوف الجيش المصري. وهذه قضية شائكة تثير المخاوف. من جهة اخرى، كانت الجامعة العربية اصدرت القرار رقم 1547 لعام 1959، الذي طالب بالحفاظ على الهوية الفلسطينية. وجاء القرار بناء على طلب من منظمة التحرير الفلسطينية، بعدم منح الجنسية للفلسطينيين، خوفاً من ان تذوب هويتهم. ومن الأوائل الذين طرحوا معالجة المشكلة زعيم حزب التجمع خالد محيي الدين الذي اقترح في مجلس الشعب منح الجنسية لأبناء المصريات المتزوجات بأجانب والمقيمين في مصر. كان ذلك في مطلع التسعينات، وقوبل الاقتراح بالتأييد والتنديد أيضاً. وباتت قضية ابناء المصريات تشكل منبراً، تارة لدفع الظلم عن شريحة كبيرة من الابناء الذين لم يعرفوا وطناً لهم سوى مصر، ومن الامهات غير القادرات على توفير سبل التعليم والعلاج لابنائهن، لا سيما المطلقات واولئك اللاتي هجرهن ازواجهن، وتارة اخرى لجذب الانظار والفوز بتغطية اعلامية ساخنة. ثم تفاعلت القضية ودوّلت مع تدخل المنظمات الدولية. الأمر الذي اعتبرته دوائر مسؤولة تدخلاً في الشؤون الداخلية. فالمفوضية العليا لشؤون الانسان مثلاً أتت على ذكرها في جمعيتها العمومية عام 2001، التي ناقشت "الحد من التمييز ضد المرأة في مصر". وفي الفقرة رقم 330، اعربت اللجنة عن قلقها من نص القانون الذي يمنع الام المصرية من منح جنسيتها لابنائها لو كان زوجها اجنبياً، في حين يسمح القانون نفسه للمصري المتزوج بأجنبية بمنح جنسيته للأبناء، واعتبرته غير متناسب وميثاق حقوق الانسان. واقترحت مراجع إسلامية قبل نحو اربع سنوات ان يسمح لأبناء المصريات بحمل الجنسية المصرية شرط ان يكون الزوج مسلماً، الا ان الاقتراح أثار حفيظة آخرين، إذ أنه في حال تطبيقه سيمنع الأم المصرية المسيحية المتزوجة بأجنبي من حق منح جنسيتها لأبنائها بسبب الدين. ومن المنطلق الاسلامي عينه، تقول عميدة كلية دار العلوم فرع الفيوم في جامعة القاهرة الدكتورة زينب رضوان ان "الجنسية قضية تعالجها القوانين الوضعية، فمنح الجنسية او منعها قرار يتحدد تبعاً لمصالح المجتمع كما يتراءى لصانعي السياسة". والحقيقة ان غالبية الاصوات الضالعة في القضية تتعامل معها من منطلق انساني بغض النظر عن الدين. عام 1975، أعطى قانون الجنسية المصري رقم 26 الحق لأبناء المصرية المتزوجة بأجنبي حق الحصول على الجنسية المصرية، في حال كان الأب مجهولاً. إلا انه فتح المجال أمام الكذب والتحايل، والأمثلة كثيرة. وفي محاولة للحفاظ على حقوق النساء المصريات المقبلات على الزواج من اجانب، اصدرت وزارة العدل المصرية في عام 1999 عدداً من القواعد المنظمة للزيجات المختلطة. وتبعاً لها، لا يحق للزوج الاجنبي ان يفوق زوجته المصرية سناً بأكثر من 25 عاماً، او عليه اعطاؤها مبلغ 25 الف جنيه مصري في صورة شهادات استثمارية لا يمكن فكها، أي استرجاع قيمتها المالية إلا بعد مرور اكثر من خمس سنوات على الزواج، او حدوث طلاق او وفاة الزوج. وقبل ايام أعلنت وزارة الداخلية المصرية ان السلطات المصرية قررت منح الجنسية لأبناء المصريات المتزوجات من أجانب شرط ان تنطبق عليهم مواصفات معينة بعد إقرار التعديلات التشريعية المطلوبة. وقال مصدر مسؤول: "لا أحد من ابناء اي ام مصرية، مقيماً كان أم مغترباً، سيكون ممنوعاً من تقديم الطلبات للحصول على الجنسية"، موضحاً ان لجنة معينة ستتولى النظر في الطلبات لتحديد مواءمتها مع الشروط. وحددت مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية في وزارة الداخلية المصرية المتزوجة من اجنبي للحصول على الجنسية المصرية، واشترطت على الطالب تقديم شهادة ميلاده، وجواز سفره الاجنبي وصورة منه، والمؤهلات الدراسية، وصحيفة الحال الجنائية السجل العدلي لمن تجاوز عمره 16 عاماً، وشهادة إقامة متصلة ومتتالية في مصر لمدة عشر سنوات لمن يبلغ عمره 21 عاماً، بالاضافة الى الصور الفوتوغرافية. وسيطلب من طالب الجنسية كذلك مستندات الأم المصرية، مثل شهادة ميلادها، وشهادة ميلاد والدها، كي يتم التأكد من ان الأم مصرية أباً عن جد، وعقد زواجها من والد الابن الأجنبي. والسند القانوني الذي سيحصل بمقتضاه الابناء على الجنسية هو ان قانون الجنسية الحالي يخول وزير الداخلية منح الجنسية المصرية لمن تنطبق عليهم الشروط "حفاظاً على تركيبة المواطنين، ووفقاً لما يراه الوزير محققاً للمصلحة العامة". وعلى مدى الأيام القليلة السابقة توافدت اعداد كبيرة من الامهات المصريات المتزوجات من اجانب الى قسم الجنسية في مصلحة الجوازات المصرية، لتقديم طلبات الحصول على الجنسية. مندوب فلسطين الدائم لدى الجامعة العربية محمد صبيح كشف ل"الحياة" عن وجود مشكلات انسانية واقتصادية عدة يواجهها ابناء المصريات المتزوجات من فلسطينيين في مصر، مثل الدراسة، والاقامة، والعمل. وعلى رغم التسهيلات الممنوحة لهم في مجال الدراسة، تعاني نسبة كبيرة منهم مشكلات اجتماعية واقتصادية. وأشار صبيح الى ان القرارات الماضية التي منعت منح الجنسية للفلسطينيين صدرت في وقت كانت القضية الفلسطينية تطرح في اروقة الاممالمتحدة باعتبارها قضية لاجئين فقط، "لكن الوضع تغير، وقامت دولة فلسطين وإن كانت اراضيها محتلة، واعترفت الجامعة العربية وعدد كبير من الدول والمنظمات بفلسطين كدولة كاملة العضوية، ما يعني ان قرار الجامعة العربية السابق تجاوزه الزمن". وعمّا إذا كان منح الجنسية لأبناء الفلسطنييين يعتبر خرقاً لتوصية الجامعة العربية، قال: "من الأفضل تحديث التوصية لتتلاءم والظروف الحالية، وهذا امر غير صعب". وأضاف: "هل كل قرارات الجامعة العربية تنفذ بحذافيرها؟". القرار الأخير هو الخطوة التي بدأت بها رحلة الألف ميل، والألف امرأة ويزيد اللائي تقدمن بطلباتهن في الايام الأولى من صدور القرار على أتم استعداد لتحمل مشاق الحصول على الجنسية، حتى ولو كانت رحلة الألف مشقة.