قبل أيام عقد شون أوكييف المدير الجديد لوكالة الفضاء والطيران الاميركية "ناسا"، مؤتمراً صحافياً اثار اهتمام معظم الصحافة الاميركية ووسائل الاعلام العالمية، وذلك قبل ان ينقضي اسبوع واحد على تعيينه في منصبه من الرئيس الاميركي جورج بوش. وأوكييف جمهوري في ميوله السياسية وله خبرة طويلة في مجال الامن. وسبق له العمل تحت ادارة نائب الرئيس الحالي ديك تشيني اثناء توليه وزارة الدفاع خلال ولاية الرئيس جورج بوش الأب. وفي مؤتمره الصحافي الاول، أظهر أوكييف تحفظاً واضحاً حيال أحد أبرز مشاريع "ناسا"، أي محطة الفضاء الدولية. وأعلن انه "سيراجع بحذر" الموازنة المخصصة للاسهام الاميركي في هذا المشروع العالمي. وفهم الجميع ان الامر يتعلق بتراجع الاسهام الأميركي في المشروع الذي تشارك فيه 16 دولة، من بينها روسيا والمملكة المتحدة وكندا والبرازيل والارجنتين والهند وغيرها. مخاوف مبررة، ولكن ولم تأت هذه المخاوف من فراغ، ولم تنقض فجأة كصاعقة من سماء صافية. فقد ترافقت تسمية المدير الجديد، في كانون الأول ديسمبر من العام المنصرم، مع نشر تقرير "يونغ" عن تقويم الاسهام المالي للولايات المتحدة في المشروع. وبناء لرغبة الادارة الجمهورية، وجد التقرير المذكور سبلاً من أجل خفض ما تدفعه اميركا في المحطة مثل الاكتفاء بارسال ثلاثة رواد فضاء الى المحطة بدلاً من خمسة، وخفض رحلات مكوك الفضاء الذي يساهم في حمل اجزاء المحطة لتجميعها في الفضاء، وان تعلن الولاياتالمتحدة انها اتمت بناء "قلب المحطة"، وما الى ذلك. ولاعطاء فكرة عن اثر هذه الاجراءات في المحطة، يجدر التذكير بأنها تتألف من نحو مئة قطعة، من بينها ستة مختبرات كبيرة. ولنقل هذه المكونات المئة وتجميعها، يجب القيام بأربعين رحلة فضائية، ونقل مواد يصل وزنها الى 454 الف كيلوغرام. ولم يتورع يورغ فيستيل بوشيل مدير "وكالة الفضاء الاوروبية"، عن ابداء امتعاضه الصريح من تقرير "يونغ"، بل اعلن ان اوروبا مصممة على السير في هذا المشروع العملاق، وتمنى على الادارة الاميركية ان تعود الى التزاماتها السابقة حيال المحطة. ويصعب ألاّ يذكِّر الامر بالتجاذب بين اميركا وبقية العالم، خصوصاً حلفاءها الاوروبيين حيال مسألة تلوث البيئة والالتزام بميثاق "كيوتو"، الذي بادر الرئيس بوش، الى التراجع عن التزام سلفه الديموقراطي بيل كلينتون به، وكذلك يمكن ملاحظة التناقض القوي بين موقف الرئيسين في مشاريع الفضاء. وكان كلينتون أعطى تأييداً مذهلاً لما يسمى ب"مشاريع العلم الكبرى" في "ناسا"، وساعده ذلك في تمتين علاقته بدانييل غولدن، مدير"ناسا" السابق. واشتهر غولدن بتأييده المشاريع الكبرى للوكالة، وبأنه هو من أطلق مشروع "أوريجينز" اي "الجذور" الذي يهدف الى تقصي علاقة الانسان بالكون. ماذا عن ارهاب ايلول؟ وثمة حادث يصلح ان يكون نموذجاً لتأييد كلينتون لغولدن ومشاريع العلم. ففي العام 1998، هزت "ناسا" أوساط العلم في الأرض باعلانها ان نيزكاً مريخي الاصل، يحتوي على آثار لكائنات بيولوجية، ما طرح احتمال ان تكون بعض الاشكال الحية على الارض، مثل البكتيريا، قدمت من المريخ. وأعلن غولدن ذلك الامر بنفسه من البيت الابيض وبحضور كلينتون الذي أتبع الاعلان بزيارة الى مقر "ناسا". ويبدو ان مثل هذه الامور ربما صارت جزءاً من الماضي، او من عالم ما قبل 11ايلول سبتمبر 2001! وقبل الخوض في متاهات العلاقة بين الفضاء والسياسة، وهي علاقة لا يصعب تلمسها، يمكن العودة الى تصريح مدير الوكالة الاوروبية عن تقرير "يونغ". فالحال ان بوشيل مسؤول عن مشاريع الفضاء التي تحاول فهم "ماهية" الجاذبية، وهو ما يشار اليه أحياناً باسم "مايكروغرافيتي" وترجمتها "الجاذبية الفائقة الصغر". ومن اسباب الامتعاض الذي ابداه بوشيل، ان مختبرات "محطة الفضاء الدولية" تساهم في عدد من مشاريع العلم، ومنها "مايكروغرافيتي". ولربما انطبق الوصف نفسه على عدد من العلوم التي كان من المؤمل ان تساهم المحطة فيها، مثل بيولوجيا الفضاء "استروبيولوجي"، ونانوتكنولوجي، وفيزياء الفضاء، وسكنى المجرات وغيرها. واضافة الى ذلك، يؤثر عن اليمين الجمهوري الذي تنتمي اليه الادارة الاميركية الحالية، توجسه من المشاريع التي تؤدي الى مشاركة الولاياتالمتحدة مع غيرها من الدول، وفي ذلك انسجام مع عقلية الانعزال التي تجد تعبيرات شتى في أوساط اليمين الاميركي. وفي المقابل، ترتاح تلك العقلية الى استخدام الفضاء مكاناً للسيطرة على الارض واتصالاتها، كما في مشاريع اقمار التجسس الاصطناعية. ولذا لم يحر الاعلاميون في فهم مسعى أوكييف الى الانسحاب التدريجي من مشروع المحطة الدولية. وسرعان ما قدم أوكييف نفسه ما يدعم توجسهم. ففي مؤتمره الصحافي الثاني، أعلن انه سيعمل على تمتين التنسيق بين توجهات البنتاغون العسكرية ونشاطات "ناسا"! اذاً، "ان اللبيب من الاشارة يفهم"، خصوصاً ان الادارة الجمهورية اعلنت صراحة ميلها الى القبض على زمام العلم ومشاريعة في الولاياتالمتحدة بعد ضربة ايلول سبتمبر. ولعل العام الجاري سيضع هذه الادارة الجمهورية، وخصوصاً علاقتها بمشاريع علوم الفضاء على محك صعب. فمن المفترض ان يصل مشروع "أوريجينز" الى محطته الثانية خلال هذا العام، مع اطلاق تلسكوب فضاء خاص يعمل بالأشعه ما تحت الحمراء، ما يمكّن من سبر أفضل لأغوار الفضاء. هل تكون الامور قد سبقت بوش وطاقمه، ام انهما سيأخران هذا المشروع باعتباره جزءاً من ارث الخصم الديموقراطي؟ عناوين ذات صلة على الانترنت: http://www.nasa.gov http://www.space.com