ربما كانت نتائج انتخابات حزب العمل الإسرائيلي المشوبة بعوارض فلوريدا دافعاً اضافياً ليدرك العرب أن الوقت ثمين للغاية، وأن المراهنة على تحولات داخلية إسرائيلية في المدى المنظور هي نوع من الضرب بالرمل. فشارون لم يعد يحظى بدعم ليكود وأكثرية الإسرائيليين فقط، بل ان نصف حزب العمل أيضاً صار شارونياً من خلال تصويته لوزير الدفاع بن اليعيزر. في أي حال، لم تكن هناك أوهام في ما يتعلق ب"متانة" وضع شارون الداخلي. ويدرك العرب بوضوح فداحة التوجهات الإسرائيلية الداخلية وبالتالي فداحة الموقف في المنطقة، ويدركون أن الوقت حامل للمفاجآت وليس للحلول. وما التحرك الكثيف الذي تشهده الساحة العربية إلا تعبيراً عن مدى استشعار الخطر، وعن الحس السياسي الواقعي الذي يرمي إلى الخروج من المأزق بنتائج ايجابية للانتفاضة والشعب الفلسطيني. انطلاقاً من هذا التقويم يعمل عدد من الزعماء العرب وبالتنسيق مع أوروبا على تأمين لقاء بين عرفات وبيريز يهدف إلى تهدئة الأوضاع الأمنية في الأراضي الفلسطينية من جهة، وتأمين العودة إلى المفاوضات وإعادة المواضيع السياسية إلى طاولة البحث من جهة أخرى. وإذا كانت القاهرة تقود هذا الاتجاه ادراكاً منها لاستحالة ابقاء الوضع مفتوحاً على احتمالات تفجير واسعة، فإن الرياض تسعى إلى تدعيم هذا المسعى عبر إعادة فتح قنوات الاتصال بين الإدارة الأميركية والفلسطينيين، لعلمها ان واشنطن هي الطرف الوحيد المؤهل، لو أراد ذلك، للضغط على شارون لوقف اعتداءاته من جهة، وإعادته إلى مائدة المفاوضات من جهة أخرى. ولمعرفة الرياض أيضاً بأن معالجة الجفاء بين الإدارة الأميركية وعرفات هي المدخل الواقعي إلى عودة بعض التوازن السياسي وإلى إمكان تثمير بعض التضحيات التي يبذلها الفلسطينيون. ويأتي قول الأمير سعود الفيصل أمس إن الوقت حان لتتحمل الولاياتالمتحدة مسؤوليتها، ليعبر عن وصول الأزمة إلى نقطة بات التدخل الفاعل معها هو المطلوب، ويعبر عن ضيق عربي بسياسة التخلي الأميركي عن المسؤولية ووصولها إلى درجة صارت تستدعي وقفة وإعادة نظر أكثر من جدية. لن تمر العودة إلى التهدئة والمفاوضات، لو حصلت، من دون مرارة. وسيصعب على كثيرين استيعاب أن تطورات الأحداث وموازين القوى تفرض محاولة الحؤول دون ضياع كامل لإنجازات الانتفاضة تحت تأثير آلة القتل الإسرائيلية وميل المجتمع الإسرائيلي أكثر فأكثر إلى التطرف والرغبة في الحلول الدموية، في ظل انفلات عام للعبة وتجديد للضوء الأخضر الأميركي المعطى لشارون لتجريب الحل العسكري. ولعل الأشد مرارة من ذلك الادراك بأن العجز العربي لا يسمح بكثير من الرهانات. فشعارات التضامن كثيرة، وكلام التنديد أكثر من أن يحصى، لكن الفلسطينيين في النهاية يواجهون وحدهم، وبقواهم الذاتية، وبالدعم المالي المتواضع الذي اختبروه على مدى عام كامل. وهم بلا شك أصحاب المصلحة في استثمار الانتفاضة والتضحيات سياسياً في الوقت المناسب، من غير اغفال أن ما تحقق ليس بالقليل. فوحدة الشعب الفلسطيني وإرادته الصلبة في تحقيق استقلاله أصبحتا حقيقة ثابتة، وقدرته على الصمود والاستعداد للتضحية لم يفت منهما قتل ولا تدمير. كذلك، فإن تأثير الانتفاضة على المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً على المستوطنين، أمر لا يمكن تجاهله. ويكفي أن هؤلاء باتوا يعيشون حال القلق على الحاضر والمستقبل ولم تعد الطرق الالتفافية التي أقاموها لتقطيع أوصال المناطق الفلسطينية بقادرة على تحقيق أمنهم ومنع الفلسطينيين من الوصول إليهم. إنها مرحلة السياسة، وهي الأكثر حساسية واحراجاً لأنها مجبولة بالدماء وغير مضمونة الآفاق، لكنها تستحق بذل الجهود، ليس من الفلسطينيين والعرب فقط، بل من الولاياتالمتحدة وإدارة الرئيس بوش تحديداً، لتتذكر هذه الإدارة على الأقل أنها لا يمكن أن تبقى الراعية الأولى لسياسة شارون، فدورها الأصلي منذ مؤتمر مدريد هو رعاية عملية السلام وتأمين الحل العادل. والعودة إلى هذا الدور ليست مسؤولية سياسية فقط، بل هي مسؤولية أخلاقية بالدرجة الأولى، لأن الوضع خطر والوقت ثمين، ولأن الوقت حان فعلاً للتخلي عن سياسة التخلي.