اليوم الأخير في شهر حزيران يونيو عام 2001، الساعة الثامنة صباحاً، أتوجه إلى سيارتي ذات اللون الأخضر المؤذي للعينين، والذي فُرض عليّ قبل خمس سنوات من وكيل السيارات. أجد إحدى مسّاحتي السيارة الأماميتين مرفوعة إلى أعلى، في إشارة واضحة من عمّ أحمد أنه نظف السيارة. وعمّ أحمد بالمناسبة هجر عمله الأصلي كحارس للعمارة، مع الاحتفاظ بحقه في تقاضي راتبه الشهري، بعد ما تلقى عروضاً مغرية بتنظيف سيارة كل ساكن مقابل مكافأة شهرية ثابتة. اطمأننت من قيام عمّ أحمد بمهمته اليومية، وهي "لحوسة" زجاج السيارة الأمامي والخلفي بخرقة بالية تحمل كماً هائلاً من الطين والتراب المتشبع بالقاذورات الواردة من السيارات التي سبقتني. وقبل أن أهم بتشغيل الإشارة إيذاناً ببدء رحلة التناحر مع زملائي من قادة السيارات والباصات والتريلات، يهرول إليّ عمّ أحمد صائحاً: "يا ست هانم، كل شهر وانت طيبة". ويتناول عمّ أحمد الپ25 جنيهاً شهرية لحوسة السيارة، ويدسّها في جيبه من دون أن يكلف نفسه عناء التفوه بكلمة "شكراً" المنقرضة ليلحق بمتهرب آخر كان يحاول الإقلاع بسيارته منتهزاً فرصة انشغال عمّ أحمد مع الست هانم. أعطي الإشارة مرة أخرى، على رغم يقيني بأن السيارات المقبلة من يساري لن تأبه بإشارتي تلك، إذ لا يعتد إلا بإخراج ذراع بشرية، ويفضل الرأس التابعة لها. أنجح في الخروج من مكاني، وبعد تلاوة آية الكرسي، وما تيسر من آيات الذكر الحكيم، أكرر تعهدي اليومي أمام نفسي: "لن أفقد أعصابي مهما بلغت قلة ذوق زملائي من قادة السيارات ومهما حدث من انتهاكات لحقوقي في السير". وما ان أصل إلى المنعطف في أول الشارع، وانتظر ثانية لأتأكد من خلو الطريق، حتى يباغتني سائق سيارة الأجرة خلفي بالضغط الهستيري على آلة التنبيه، ويلوح بكلتا يديه ويصرخ: "هو إحنا هنّام هنا ولا إيه؟". وبحركة لولبية خزعبلية، يتعدى سيارتي الخضراء الجميلة، وينطلق بأقصى سرعة في الشارع الرئيس المزدحم غير آبه لسباب السائقين ولعنات السيارات التي كسر عليها جميعاًَ. أنطلق في طريقي، وفجأة تتوقف سيارة الأجرة أمامي في عرض الطريق ومن دون سابق إنذار بعد ما لوحت له سيدة تقف في الطريق المعاكس، أنجح في الضغط على مكابح السيارة في اللحظة الأخيرة لتتوقف على بعد ملليمترات من سيارة الأجرة. وبينما أتهيأ للنزول من السيارة لتوجيه السباب والشتائم للسائق، أفاجأ به - وهو الذي التقيت به قبل دقيقتين عند المنعطف - وهو يصرخ: "وكمان مش بتشوفي؟ لا حول ولا قوة إلا بالله". أتذكر عهدي الذي قطعته على نفسي، وأعود إلى السيارة لأستكمل رحلتي إلى العمل. أصل إلى الميدان الذي يقطعه "مترو مصر الجديدة سابقاً"، والمعروف بمترو المعاشات حالياً نظراً للساعات الطويلة التي تستغرقها رحلته القصيرة. وبينما انتظر مرور المترو أمامي، أعيد خصلات شعري خلف أذني، وألمح أحد رجال شرطة المرور وهو يخرج دفتر المخالفات من جيبه، ويسير متمهلاً إلى أن يصل أمام السيارة بالضبط، وبحركة عنترية يكتب رقم السيارة، وهو ينظر إليّ من خلف نظارتيه الشمسيتين الرديئتين، وقد حرص على دلدلتهما على أنفه دليل العظمة والأهمية. أترجل وأسأل عن سبب المخالفة، يرد بعدم اكتراث: "لإنك كنت تتحدثين في المحمول". أوكد له أنني كنت أعيد شعري خلف أذني، فينظر إليّ باستهزاء، ويقول: "انت فاكراني عبيط؟"، فأرد: "لا لست عبيطاً، ولكني لم أتحدث في المحمول". فيرد بسؤالي: "أليس لديك محمول؟"،. فأقول ببراءة: "نعم". فيؤكد لي بلهجة صارمة معلناً نهاية الحوار: "إذاً كنت تتحدثين فيه". هنا أجد أن الحوار لن يجدي، فأعود إلى سيارتي في محاولة لاستكمال رحلة التوجه إلى العمل. أنجح في الوصول إلى مطلع كوبري 6 أكتوبر، وأتعجب من تكتل السيارات في الجانب الأيمن، على رغم أن اليسار خالٍ تماماً. أقرر الانحراف يساراً، وبعد إتمام جميع الإجراءات من تشغيل إشارة اليسار، ثم التلويح بذراعي إلى الخارج، أنحرف يساراً، فإذ بركاب سيارتين فارهتين يلوحون لي بأيديهم المدججة بأجهزة اللاسلكي، أنظر إلى آذانهم فأتأكد من أن السماعات تتدلى منها "يا لي من غبية، لقد اخترقت موكب أحد المهمين". أكرر اتخاذ إجراءات الانحراف مجدداً، لكنها هذه المرة إلى اليمين، وبعد توسلات عدة باستخدام تسبيل العينين وتمتمة الشفتين يسمح لي أحد السائقين بالانزلاق أمامه. أعود إلى صفوف عامة الشعب ثانية، ونندمج جميعاً في عمل واحد: تحريك "الفيتيس" صندوق السرعات إلى السرعة الأولى، ثم الثانية، وتليها كبحة بطيئة، ثم التوقف التام، مع إعادة الكرة لحين وصول الصفوف المتراصة إلى منزل الكوبري. وبعد مشاحنات عدة، أصل إلى مقر العمل، أقوم بعدد من الدورات الكاملة حول مربع المباني حيث أعمل في محاولة للبحث عن مكان للانتظار. أتلقى عروضاً عدة من "المنادين"، وهي وظيفة ابتدعها المصريون للهيمنة على أماكن انتظار السيارات في الشوارع، في مقابل تقاضي مبالغ تتفاوت بين 25 قرشاً وخمسة جنيهات. أنتقي أفضل العروض، وأسلم "المنادي" الجنيهات الثلاثة، وأنا أتضرع إلى الله أن يقبلها ولا يطالب بالمزيد. تنقضي ساعة منذ دخولي المكتب، فأضطر إلى الانصراف لتجديد رخصة السيارة. وقد نصحتني أمي في تلك الظروف بقراءة ما تيسر من سورتي "الواقعة" و"يس"، مع دعاء: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". وآه من قهر الرجال. فهو تحديداً ما حدث في إدارة المرور التابعة لها سيارتي. تسلحت بمجموعة من بطاقات العمل من فلان بك إلى علان بك، يوصي فيها الأول الأخير خيراً في التعامل معي، وهو ما يعرف ب"الوساطة" أو "الكوسة". حملت "كوستي" أقصد بطاقة وساطتي وتوجهت إلى مكتب المختص، فإذ بعشرات من المواطنين يتناحرون على باب المختص. وتتكرر الدورة: قليل من التدافع وكثير من التلاحم تفرز خروج أحد أعضاء الخلية المتناحرة إلى مكتب السيد المختص متسلحاً ببطاقة فلان بك. ويحدد المختص - في هذه الحال علان بك - درجة الاهتمام بحامل البطاقة، طبقاً لمعايير تخضع لمواصفات خاصة بعلان بك. وتحين لحظة خروجي من "اللحمة البشرية" التي تلفظني إلى مكتب المختص، وأنا متشبثة بسلاحي، كارت "فلان بك"، وبحركة لولبية سريعة، يضغط أحد الأزرار الكثيرة على مكتبه بعصبية شديدة، ليهرع أحد المساعدين الى الداخل، وتوكل إليه مهمة إحضار الملف الخاص بسيارتي الخضراء. يأتي الملف ويباغتني المختص بعبارة استنكارية استنفارية شديدة اللهجة: "عليك مخالفات ب1200 جنيه، انت بتمشي مغمضة ولا إيه؟". وأخذ يضحك بهستيرية، وكانت هذه الضحكة الوحيدة التي أنعم عليّ بها المختص. وبدأت رحلتي مع الملف والمندوب، من هذا المكتب إلى ذاك، ومن هذا الموظف المتجهم إلى زميله المتعجرف. وانتهى المطاف بعد ساعتين أو يزيد، وخرجت من المكان برخصتي الجديدة وكأني ولدت من جديد. وكانت الساعة نحو الخامسة مساءً، فقررت العودة إلى المنزل، وبينما أنتظر فرصة عبور الشارع بالسيارة من إحدى ال U-TURN,S وقفت خلفي سيارة BMW اختار سائقها أن يمضي وقته بالضغط على آلة التنبيه من دون توقف، ولما فقد الأمل في أن القي بنفسي وبسيارتي الخضراء تحت عجلات السيارات المسرعة التي لا تتوقف، بذل جهوداً خارقة ليعود إلى الخلف، ثم يأتي إلى يميني، وبينما هو منشغل بالنظر الى السيارات التي تسابق الريح ليتحين الفرصة ليعبر بينها ويثبت لي ضعفي وقلة حيلتي، اخترق باب سيارتي من اليمين بمقدمة سيارته، إلا أن هذا لم يثنِ من عزمه، وانطلق عابراًَ الشارع متحدياً كل أنواع النقل الثقيل والسريع والبطيء. ولأن "الشكوى لغير الله مذلة"، وبما أن التوجه إلى قسم الشرطة لتحرير محضر "لا يسمن ولا يغني من جوع"، وحيث إن القيادة في شوارع القاهرة تحتم العمل بالمثل القائل "استراح من لا عقل له" مضيت قدماً إلى البيت كأن شيئاً لم يكن، وسلمت مفتاح سيارتي الخضراء إلى عم أحمد ليكرر "لحوستها" استعداداً لرحلة الصباح، وعهد جديد أقطعه على نفسي ب"ألا أفقد أعصابي، فما لا يمكن علاجه، يتعين احتماله".