في الوقت الذي يثير وباء "الحمى القلاعية" رعباً في أوروبا ومناطق أخرى من العالم يستعيد العراق المواجهة السياسية التي أثارها هذا الوباء بينه وبين المفتشين الدوليين الذين كانوا قرروا عام 1996 تدمير مختبر لانتاج لقاح مضاد للوباء بناه الفرنسيون نهاية السبعينات في منطقة الدورة جنوب غربي بغداد بذريعة انتاجه أسلحة جرثومية. ويبدو ان "لعنة العراق" بحسب مصادر رسمية لم تتوقف عند الجنود الذين شاركوا في التحالف المعادي الذي أخرج القوات العراقية من الكويت عام 1991. فاللعنة امتدت لتصيب قطعان الماشية انطلاقاً من بريطانيا، لينتشر الوباء في مناطق أخرى من أوروبا. ولا تخفي الأوساط العراقية شعوراً بالشماتة حين لم تجد دعواتهم نهاية عام 1999، لمنظمة الغذاء والزراعة الدولية "فاو"، نجدة البلاد من مرض "الحمى القلاعية" التي أتى على الآلاف من رؤوس الماشية. فالنقص الحاد في اللقاح الذي سببه تفجير المفتشين الدوليين لمختبر انتاجه أسهم في خسارة البلاد مورداً آخر من مواردها التي أصبحت غير كافية لتسديد فواتير قرارات إعلان الحروب. وكانت وزارة التصنيع العسكري فرضت سيطرتها المباشرة على "مختبر الحمى القلاعية" وحولته منشأة من منشآتها في الفترة التي كانت الوزارة وباشراف صهر الرئيس حسين كامل تستهلك نحو 70 في المئة من عائدات النفط عام 1989. وأصبح منتسبو المختبر يعانون ازدواجاً ادارياً فهم يتلقون الأوامر الفنية والعلمية من مسؤولي وزارة التصنيع العسكري الذين بدأوا ادارة اقسام مقفلة يمنع الأطباء البيطريون والاخصائيون الكيمائيون من دخولها الا الذين تم ترشيحهم بعد موافقة الأجهزة الأمنية والتحقق من انتمائهم الى الحزب الحاكم، كما انهم ظلوا رسمياً مرتبطين بوزارة الزراعة ويتقاضوا رواتبهم الشهرية منها ورشح بعضهم الى دورات في دول اوروبية اضافة الى الهند للتخصص في وباء "الحمى القلاعية" وتطوير السعة الانتاجية لصنع اللقاح ما جعل العراق إحدى الدول المصدرة له الى بلدان في آسيا وافريقيا. ويقول العراق ان المفتشين الدوليين بالغوا في ايذاء البلاد وتدمير "منجزاتها" العلمية والصناعية مشيراً في هذا الشأن الى تدمير مختبر انتاج لقاح "الحمى القلاعية" بعد رفض المفتشين عرضاً بقبول العراق المراقبة الدائمة على المختبر على أن يستمر في انتاج اللقاح وإبعاد كل ما من شأنه التعاطي مع انتاج اسلحة جرثومية، حين أكدت لجنة "أونسكوم" ان قسماً منها كان ينتجه المختبر طوال سنوات. كما زادت اللجنة من "غطرستها" حين رفضت اخراج المعدات الطبية والعلمية والادارية العادية من المختبر قبيل تفجيره وأصرّت على تحويله دماراً تاماً. وتقول الولاياتالمتحدةوبريطانيا اعتماداً على تقارير أوصلتها جامعات في البلدين وأخرى في استراليا ونيوزيلندا وفرنسا دربت اخصائيين عراقيين في الطب والطب البيطري وعلوم الحياة وعلم الفايروس "الفايرولوجي" وعلم الجراثيم الدقيقة "البكتريولوجي" ان العراق طوّر صناعة أسلحة جرثومية في مواقع لانتاج لقاحات أمراض "الجمرة الخبيثة" الانثراكس و"الحمى القلاعية" فوت أند ماوث ديزيز والكثير من أمراض الدواجن في مختبرات "شركة الكندي" في أبي غريب الضاحية الشمالية الغربية للعاصمة العراقية. وكانت بواكير المشروع العراقي لانتاج اسلحة جرثومية بدأت في منتصف السبعينات مع انشاء "مؤسسة الحسن بن الهيثم" التي تعاقدت مع طلبة بعثيين "لا يشك في ولائهم" في كليات الطب والطب البيطري والعلوم والصيدلة وظلت المؤسسة مرتبطة بمكتب نائب رئيس "مجلس قيادة الثورة" آنذاك صدام حسين وتم ارسال بعضهم الى دورات في مصر وألمانيا الشرقية ضمن خطة كان بدأها العراق وأشرف على تنفيذها صدام حسين لعسكرة المجتمع كخطوة لبناء "موقع قوي" للبلاد. ويرى مراقبون عراقيون في "التصنيع العسكري" المرجل الذي أحرق ثروات البلاد مرتين: الأولى حين ضاعت على الملأ منشآته والثانية في تدميرها ودفع تكاليف عمليات التدمير من خلال انفاق العراق على عمل "لجان التفتيش" أكان ذلك في تدميرها مواقع عدة أم في نفقات برنامج المراقبة طويل الأمد. وحال "الحمى القلاعية" في نسختها العراقية مثال على "استخدام أهوج" لمقدرات حين تم الانعطاف بالجانب العلمي لمختبرات انتاج اللقاح الى استخدام عسكري ما جعلها هدفاً لقرارات التخلص من أسلحة الدمار الشامل. فضاعت على البلاد فرصة استثمار ما صرفته على تلك المختبرات مثلما ضاعت عليها موارد أخرى دفعت كنفقات على عملية تدميرها. الى ذلك تقدر مصادر عراقية رسمية خسائر البلاد من اصابة ماشيتها ب"الحمى القلاعية" نهاية عام 1999 بنفوق نحو مئة ألف رأس من الأغنام والأبقار كانت ستساهم في "موازنة مستحيلة" تحفظ شيئاً من الاختلال الغذائي والصحي للعراقيين. وتعتقد ان ما شهدته بريطانيا وأوروبا من رعب هذا الوباء، جزء آخر من مرض "لعنة العراق".