أربع لوحات للفنانة التشكيلية اللبنانية ندى عقل من مواليد المحيدثة - عام 1957 دخلت ضمن مقتنيات متحف بوشكين الذي استضاف معرضاً لها نظمته لجنة مهرجان "خريف تساركوي سيلو" وهو من التظاهرات البارزة في الحياة الاجتماعية والثقافية الروسية في سان بطرسبرغ، التي يدعى اليها كبار المبدعين في الأدب والمسرح والفن التشكيلي. والحفاوة التي عادة ما يحظى بها فنان روسي، قطفتها هذه المرة ندى عقل التي حملت واقعيتها "القصوى" الى بلد الواقعية الاشتراكية. وكان اجماع النقاد حول اعمالها الفنية بأنها جديدة على العين، فائقة الحساسية والتعبير، يلفها نور من ذهب، نور داخلي مثل شعلة جمال روحاني. جمال غريب من مزيج الكلاسيكية والحداثة. وأصداء تلك النجاحات التي سرعان ما وصلت الى بيروت ترافقت مع المعرض الذي يقام للفنانة في غاليري الأيبروف - دارتيست حتى 24 شباط /فبراير، متضمناً 24 لوحة زيتية معظمها من الأحجام الكبيرة، تعود الى أعوام 1994 - 2000، من بينها الأعمال التي عرضت في متحف بوشكين. من يعرف ندى عقل عن قرب، يدرك ولعها القديم بالتراث الموسيقي الروسي. كأن ثمة انتماء غير معلن تعود جذوره الى ذكريات طفولتها. فهي تجهل حتى الآن الأسباب التي جعلت جدها يطلق على أولاده اسماء روسية. "باناي" هو والدها ومعناه بالعربية الكنيسة المقدسة. وهي من عائلة معروفة بشغفها العميق للفن والموسيقى. ولعل مشاعرها التي ترنمت بالألحان التي كان يعزفها شقيقها الموسيقي الراحل وليد عقل هي التي فتحت أكثر مدارك خيالها نحو آفاق مجهولة. فموهبتها أهَّلتها لينل الجائزة الأولى في أكاديمية كوكوشكا سالزبورغ - النمسا العام 1978 ولتتابع من بعد دراسة الرسم والتصوير في جامعة نيويورك العام 1979، ثم في جامعة السوربون العام 1981. ومنذ ذلك الحين بدأت معارضها الفردية تتعاقب في كل من باريسوبيروت وجنيف ونيويورك. وعلى رغم اقامتها في باريس منذ أوائل الثمانينات إلا أن أحلامها كانت تحوم فوق نهر "نيفا" لتحط في متحف بوشكين الذي يتوسط المتحف الروسي والأرميتاج. كأن ندى عقل تبحث دوماً عن الرؤية المدهشة. وتمكن قراءة تلك الدهشة في عينيها وهي تتحدث عن تلك البلاد البعيدة المغمورة بالثلوج، ومثل الحكايات الخرافية أبراجها وقصورها ومتاحفها وايقاعات فنونها. "أما الطبيعة في سان بطرسبرغ فهي - كما تقول - متفجرة مثل طبيعة لبنان. فالأبنية المتهدمة منذ أيام ستالين ما زالت واقفة كأنصاب مفجعة وكأنها تقبع فوق براكين فيها قوة، مثل القوة التي تشخص لها الأبصار في أسواق بيروت - الحرب. مشهد يقربنا من الخطر. من الموت والحياة في آن. العشب هناك يشق الحجر ليخرج منه كالحياة التي تولد بالقوة. الدمار فيه قوة وعنف". وهما يهزان المشاعر ويحركان الصور الدفينة في النفس، تماماً كموسيقى مغني الروك في تجمع نرفانا "كورت كوبني" وهو أميركي من أصل روسي انتحر عام 1994. وجدت ندى في موسيقاه نوراً كبيراً وهوة سحيقة وحالات كثيرة من مرايا الروح. فأعجبت به على رغم بعده عن ذائقتها الكلاسيكية المعهودة. وجدت فيه طعم الفراق الذي أحسته مع وفاة والدتها. ذلك الفراق الذي جعل عواطفها من دون أن تدري تعود الى المراهقة. منذ ذلك الحين وصوت المغني لا يخفت، بل صورة الشاب الأشقر الجميل المتزامنة مع صدمة موت الأم ولاحقاً موت الشقيق، أخذت تحتل مساحات ندى عقل، في مناخات من الغرائبية المثيرة، حيث اللحظة القاطعة التي تخلدها هي اللحظة المثالية، بل هي الزمن المهدد بالزوال. كما يتراءى ذلك في احدى لوحاتها "الموسيقي والراحلون عني" حيث يتساقط الجنود في عمق الأخدود. أما الواقفون في الصف فهم ينتظرون حتفهم تحت سحابات سود بعيدة، بينما الموسيقي يعزف على آخر وتدٍ يغرسه. لعل جديد ندى عقل في الأعمال الموقعة في السنوات الأخيرة، هو الفضاء السماوي الكبير الذي بات يشغل نصف اللوحة. قد يستعيد البعض لدى رؤية الأزرق الفيروزي الذي ترسمه ندى عقل، آثار الرومنسيين الانكليز الكبار امثال "ترنر" و"كونستابل" وقد يتذكر البعض كتابات أزرق "باشلار" وظلاله الرمادية الشفافة. لكن مشهد الغيوم عند ندى عقل ينفتح على مبررات مغايرة، حيث الطبيعة وحشية، أشجارها من تلافيف ناتئة وفروع مشرئبة، وتتراءى فتاة تشد جذراً يشق الصخور مثل اليد. تلك الفكرة هي أكثر الأفكار تعبيراً عن رمزية الانسلاخ عن الأرض. وفي مكان آخر تطل الطبيعة بانورامية كمنظر جبلي لبناني من أشجار صنوبر وصخور وغيوم تعبر صفحة السماء، داكنة مثل دخان رمادي، أو بيضاء ضبابية كالثلوج. إنها أيضاً السماء المقفرة الوعرة التي تشبه وعورة الجبال المكفهرة في صورة "آنا والعصافير" حيث الأرض اليباب لم تطأها قدم غير قدم أرمسترونغ! وبمحاذاتها يمر النهر مثل صفحة المرآة بعيداً من تجاعيد المياه، الرأس الذي تعتليه العصافير مثل شجرة هو رأس آنا أو "أنوشي" الاسم الروسي للفنانة ندى عقل، التي نعثر على وجهها دوماً في زوايا اللوحات وفي قلبها، في وشوشات أوراق الأشجار وفي برقشة أنوار الحديقة. انه طيفها وروحها وانعكاس ظلها وماضيها وذاكرتها ولوعتها. وجه بتكاوين بديعة وابتسامة غامضة كل الغموض. وجه منذور للفن والجمال، مظلل بالحزن والألم المكتوم، على رغم كل ما ينطق به من حنين لبراءة الطفولة واخضرار الأرض وأريج الأزهار. هل يختصر وجهها كل الوجوه، أم هو جزء لا يتجزأ من تقاسيم لوحاتها وموضوعاتها؟ يظهر الوجه دوماً شفافاً كوهم آت من عالم آخر، تخاطبه الرسامة كصورة، كما تخاطب أناها الثانية من أقصى نرجسيتها، بل من أعماق نفسها وذاكرتها كي تغدو هي "موديل" ريشتها؟! ندى عقل صاحبة الرؤى الحافلة بالتوجسات، تدفعنا لنرى الأشياء بعينين كبيرتين، لفرط النقاء الشعري في الصورة التي ترسمها كي تضاهي الواقع وتنتصر عليه بقوة الحلم. الذكرى هنا تسبق الحدث وتحققه، وهي تتنزه في دروبه المزيفة، مثقلة بالعناصر المثيرة للتهيؤات. وفي المشهد الحضور الكبير هو للغياب. فالدراما نفسها وكذلك الاغتيال الذي لا يتوقف للصورة. "غالباً ما تأتي فكرة اللوحة في إثارة بصرية - تقول ندى عقل - أحياناً من إعلان أو لقطة سينمائية أو صورة فوتوغرافية، مثل القصاصة التي عثرت عليها بين أغراضي لصورة جبل وغيوم فأعجبتني، فتحولت الى مفردة أخذت تتردد مثل مبدأ التجريد. التكرار هو عندي البناء ثم الموسيقى تساعدني في التأليف وإيجاد العناصر المناسبة". لعل مبدأ التكرار الذي تتحدث عنه الفنانة هو الذي عرّف به "جاك مونوري" اسلوبه في مضاعفته للواقع، إذ كلما تكرر الشكل تصاعد مؤشر عدميته، حتى لنظن أن الوجه الذي تنسحب ملامحه مفقود. قد يكون من جراء التكرار سر الخفاء في جدلية الصورة المعاصرة، كما وصلت اليه استنتاجات بعض فناني الواقعية القصوى. قد يعتمد عمل ندى عقل على صور فوتوغرافية منعكسة على القماش، لكنها لا تجاري على رغم أمانتها للواقع، تقنيات بعض الفنانين في "النسج الآلي" للألوان، لأنها تنفي عن لوحتها الطابع الاستهلاكي. لذلك تعتمد كلياً على براعة التصوير اليدوي بالريشة، للمظاهر المادية التي تصل الى "ما فوق الواقعية"، أي الى المتخيل الذي وصفه سارتر بالوفرة المماثلة للعدمية. هكذا تبدو كلاسيكية ندى عقل الظاهرة، خادعة للعين، من فرط عنايتها بالتفصيل في طريقة تعاطيها مع الظلال والألوان والأضواء، حتى ان أشكال الحجارة تظهر منحوتة من كل وجوهها، حجرة حجرة وورقة ورقة، على مستوى كبير من الوضوح والدقة والمكاشفة، مما يثير الريبة والخشية والشك. فالطبيعة عذرية ووعرة عصية على القدمين، والغابة مقفرة والبيوت مهجورة أو تكاد ولا يقطنها إلا الزائر الغريب الشاب الميت الذي يأتي ليروي الحديقة. نراه في غرفته واقفاً في تردد يسبق لحظة الانتحار، أو نراه على حافة السور مغادراً وأحياناً جالساً بجوار قطع الحطب، وعلى دراجته في درب مملوء بالحصى بين حافتي المقبرة والبيت. هكذا تعيش الفنانة حال الخوف من فقدان الأشياء المهددة بالزوال. فتلتقط الزمن، تذهب به الى الدهشة القصوى، وهي ما برحت تتلفت الى الماضي، لتتذكر طفولتها، وكأن النور العجيب للشمس يعطي أفياء الأشجار صورة المياه السحرية، أمام صمت المنجل والفأس وحطب الحديقة وطيورها الأليفة. الطفلة ما زالت كما كانت بالأمس تتسلق الشجرة لتزينها بأضواء العيد. ماذا تخبئ لوحة ندى عقل خلف شاشة الطبيعة الشاسعة التي تجلو البصر سوى أسراب أحلام غريبة وفردوس ذكريات مفقودة؟