كانت بيروت، في الأربعينات، شجرة وارفة في حديقة عامة، يستظلّ أغصانها المستظلّون: يقرأون، يكتبون، يرقبون الحياة تمرّ بهم من بين الأزاهر والورود. وكانوا جيلاً كاملاً، جيلاً هائلاً كعملاق، مضوّعاً كزهرة، حانياً كوردة. نثراً، كانوا سادة النثر. وشعراً، كانوا إيوان الشعر. صفوفاً صفوفاً لا تعرف أواخرها. فجمْعهم أوائل كالبجع مهاجراً أو البجع عائداً. إذا حضروا غنّوا، وإذا غابوا يحنّون، وأجنحة تحتضن كل ما حولها. أسراب أسراب ... في النثر البديع وفي الشعر الأعلى. وبعضهم وُلِد من الرحمين: ناثراً له رنّة الشعر، ومُذرّاً له وزن الخليل وبوح الأخلّة. كذا هو فؤاد سليمان: نتاج الموسم المدرار زمن الأربعينات، يوم الحزب هوى، والعقيدة شغف، والكلمة سبيل الأمة الى الكينونة الجديدة، الكينونة المنبعثة من رماد سومر وغبار الحرف وجراح أدونيس التي لا تندمل، كأنما هي رمز السعي الأبدي الى اكتمال يتكوّن لكن ... لا يكون. في فيء تلك الشجرة نشأ فؤاد سليمان، آناً يراها تردّ العاصفة وترسل الريح، وآناً تردّ الشمس وترسل النسيم. آناً شدو، وآناً صرصر. آناً زمهرير، وآناً همس. وأبداً، أبداً لا يُحني رأسها حنوّ ولا عتوّ. نصف نيسان نصف تموز كان: مزج الثورة بالثغاء، وخلط الصحافة بالأدب، وجلد المرتكبين بسيوف من شقائق النعمان. مرّ هادراً كالأمل، قصيراً كالحلم. وعاش هادئاً كالفيء، شاعراً كالربيع، حاراً مثل تموز، غزيراً مثل كوانين، رقيقاً حيياً شاعرياً معذباً كورق الكروم في تشارين. أعطته "النهار" زاوية، فجعل الحيّز مدرسة تُرتجى وتحلم. كان شيئاً من الريحاني، شيئاً من جبران، مهجرياً مقيماً، سورياً متفيّئاً زيتونة عتيقة من لبنان، لبنانياً قلبه في الوطن وعينه على الأمة، لغته من الجداول، وكلمته من القمم. عاش كفؤاد سليمان، وغاب كفؤاد سليمان، نسيج ذاته، وخليط كل مزيج فريد. له في كل ذاكرة نبيلة أثرٌ، وفي كل فؤاد حنين، حنين الى زمن العمالقة الذين كانوا يملأون دنيانا شذىً وفكراً ومُثُلاً وقدوة وخُلُقاً. وكانوا أسراباً أسراباً، متقدّمين جميعاً كالبجع، متساوين في الارتفاع، مختلفين في اللون. وكان لون فؤاد سليمان واحداً في السّرب، لا يُقلِّد ولا يُقلَّد. وعندما غاب، أخذ معه تموز، وبكَتْهُ الشقائق التي هجرها صاحب الريشة الذي كان يغطّ من ألوانها.