في الانتخابات من أجل اختيار رئيس حكومة اسرائيل المقبل، يظهر كل من ايهود باراك وارييل شارون انه أكثر قدرة على وضع حد للانتفاضة والهدوء والاستقرار الى المدن الاسرائيلية. ويستعجل باراك وشارون تحقيق هذا الهدف ليس لأن الانتفاضة تهدد امن الاسرائيليين واستقرارهم فحسب، ولكن لأنها تؤثر سلباً في سمعة اسرائيل الدولية وتصيب اقتصادها بالضرر. ففي مطلع شهر تشرين الاول نوفمبر الفائت لاحظت مؤسستا "ستاندرد اند بور"، و"فيتش" الدوليتان اللتان تنشران التقارير حول اوضاع الدول الاقتصادية ان الانتفاضة ستؤثر سلباً في الاقتصاد الاسرائيلي. وخلال الفترة نفسها تقريباً أعلن بن باسات، المدير العام لوزارة المال الاسرائيلية، خفض النسبة المتوقعة لنمو الناتج المحلي من 5 إلى 4 في المئة بسبب الانتفاضة. وخلال شهر كانون الاول ديسمبر اعلن مكتب الاحصاء المركزي ان نسبة البطالة بين الاسرائيليين ارتفعت من 8.5 الى 9 في المئة بسبب الانتفاضة، كما توقع عدد من الاقتصاديين ان يستمر هذا الارتفاع في البطالة ما دامت الانتفاضة مستمرة. وتفاقمت مشكلتا الكساد والبطالة خصوصا في قطاع السياحة. ان هذه الاوضاع، فضلا عن الاعتبارات السياسية والامنية، تدفع بالقيادات الاسرائيلية الى التفتيش عن الوسيلة الاقرب لانهاء الانتفاضة. ولقد انجلت المناقشات التي تدور حول الوسيلة المفضلة لتحقيق هذه الغاية، عن بروز البدائل الآتية: 1 - القضاء على الانتفاضة بأي ثمن، وبالتركيز على استخدام القوة العسكرية. ويتبنى هذا النهج انصار آرييل شارون خصوصا وهم يذكرون ان زعيمهم نجح في السبعينات في القضاء على المقاومة المتنامية في غزة بعد استخدام الوسائل العسكرية المتشددة. فضلاً عن ذلك يدعو متبنو هذا النهج الى اقتفاء اثر دول الاطلسي التي استخدمت القوة الطاغية والقصف الجوي ضد قوات الصرب في كوسوفو حتى تمكنت من تحقيق اهدافها السياسية والعسكرية. إن هذا النهج قد يبدو محققاً لآمال الاسرائيليين من مؤيدي الليكود ومن مستوطني الاراضي الفلسطينية، ولكنه سواء كان ممكنا من الناحية العسكرية البحتة او لا، فإنه يبدو غير واقعي في ضوء التطورات الدولية والاقليمية والمحلية التي تؤثر في الاوضاع الاسرائيلية. فهناك فرق بين السبعينات حيث كان الاسرائيليون يسيطرون سيطرة كاملة على قطاع غزة، وحيث امكن لشارون ان يمارس أشد اعمال القمع والتصفيات بمعزل عن الرأي العام العالمي، وبين القرن الواحد والعشرين حيث يتابع الاعلام الدولي اخبار الاراضي المحتلة بصورة مكثفة. وهناك فرق ايضاً، في نظر المجتمع الدولي، بين الفلسطينيين والصرب. وبينما اتجه معظم دول العالم الى تأييد تدخل الاطلسي ضد ميلوشوفيتش في كوسوفو بسبب اعمال التطهير الديني والعنصري، فإنه من المشكوك فيه، كما يقول ناقدو فكرة "النصر باي ثمن" ان يسكت المجتمع الدولي عن قيام اسرائيل بعمل عسكري ضد الفلسطينيين يماثل في ضراوته عمل الناتو ضد الصرب. ذلك انه مهما كان رأي الاسرائيليين في الامر فقد نجح الفلسطينيون في تصوير أنفسهم انهم هم الضحية لا الجاني. في ظل هذا التصور، فإنه من المتوقع ان يمارس المجتمع الدولي ضغطاً شديداً على اسرائيل، كما فعل خلال حرب لبنان عام 1982، لكي توقف حربها الشاملة ضد الفلسطينيين. ومثل هذا التدخل يسبب لاسرائيل، في اعتقاد الاسرائيليين الذين ينتقدون هذا النهج المقترح، من الضرر والخسائر ما لا يقل عن خسائرها في لبنان. 2 - وقف الانتفاضة بمزيج من الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية. ويأمل الذين يرجحون هذا النهج، وفي مقدمهم باراك، ان يتمكن من عزل الفلسطينيين سياسياً حتى عن محيطهم العربي، وذلك عن طريق التظاهر بتقديم العروض السخية الى الفلسطينيين. فاذا رفضوا يمكن الصاق صفة التعنت بهم ومحاصرتهم سياسيا ثم الانتقال الى تشديد الحصارات الاقتصادية عليهم وتصعيد القمع العسكري والاستخباراتي ضدهم. وفي هذا السياق يعتمد باراك على الادارة الاميركية التي اظهرت اكثر من مرة استعدادها في الماضي لتحميل الطرف العربي مسؤولية الفشل ثم اضفاء شرعية لاحقة على التدابير الاسرائيلية القمعية التي تتخذها ضد الفلسطينيين. فعقب مفاوضات كامب دافيد، أعلنت واشنطن ان باراك ذهب الى ابعد حد ممكن في تقديم التنازلات ولكن من دون ان يلقى تجاوباً مماثلاً من الآخرين. ومن المتوقع ان تكرر واشنطن هذا التقويم مرة اخرى اذا لم تسفر المفاوضات الجارية حالياً عن قبول الحلول التي يقترحها باراك. فإذا سارت التطورات على هذا النحو، يصبح من الاسهل على باراك تصعيد القمع واخماد الانتفاضة وبسط السلام الاسرائيلي مرة اخرى على الاراضي الفلسطينية المحتلة. ان نجاح هذا النهج يرتبط الى حد بعيد بقدرة باراك على كسب المعركة السياسية ضد الفلسطينيين. وقدرته على ذلك تعتمد الى مدى بعيد على التظاهر بتقديم العروض السخية. وعلى رغم التغطية الاميركية فإن ما يشيعه الاسرائيليون عن هذه العروض لهو موضع شك ليس في الاوساط الفلسطينية والدولية فحسب، ولكن حتى بين الاسرائيليين ايضاً. فيوفال رابين ابن اسحق رابين الذي ينتظر ان يحتل مكاناً مهماً في السياسة الاسرائيلية في المستقبل، لاحظ وجود فارق بين اقوال باراك وافعاله، وانه في الواقع لم يعرض على الفلسطينيين اكثر مما قبل به نتانياهو في اتفاق واي ريفر. بل ذهب يوفال رابين الى ابعد من ذلك، إذ أبدى شكه العلني في رواية العروض السخية التي قدمها باراك الى الفلسطينيين في مفاوضات كامب دافيد وما بعدها. وما يؤكده رابين الابن اصبح معروفاً على نطاق واسع في الاوساط الدولية مما يجعل حبل المناورات الديبلوماسية الاسرائيلية قصيراً، ومما يضعف قدرة باراك على عزل الفلسطينيين على النطاق الدولي وتبرير تصعيد أعمال القمع ضدهم بغرض انهاء الانتفاضة. 3 - الانسحاب الاحادي الجانب. فيما تروج المطالبة بالخيار الاول في اوساط "ليكود" وبالخيار والثاني في اوساط حزب العمل ومناصريه، فإن الحديث عن هذا الحل الثالث، أي تكرار السابقة اللبنانية حيث انسحبت القوات الاسرائيلية من لبنان من دون مفاوضات او اتفاق يبدو وكأنه يستقطب تأييد اقلية بين الاسرائيليين، غير انها اقلية نشيطة ونامية. ولقد بدأت الدعوة الى الانسحاب الأحادي الجانب بنداءات صدرت عن بعض الافراد ولكنها اخذت تتحول الى موقف جماعي يتبناه عدد متزايد من الاسرائيليين. ويلاحظ هنا هنري سيغمان، احد كبار الباحثين في مجلس العلاقات الخارجية الاميركي، انه عندما دعا الى هذه الخطوة في مطلع شهر تشرين الاول اكتوبر بدت وكأنها نداء غير جدي، الا انه منذ ذلك الوقت ارتفع عدد المطالبين والمطالبات بمثل هذا الانسحاب. "هيرالدتريبيون" 20/12/2000 ولقد انضم الى متبني هذه الدعوة اسرائيليون بارزون من اوساط مختلفة ومتباينة في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية. فالاكاديمي الاسرائيلي البارز شلومو افنيري، الذي ينتمي الى حزب العمل والذي شغل منصب مدير عام وزارة الخارجية الاسرائيلية في السابق هو اقرب الى دعاة التشدد تجاه الفلسطينيين منه الى دعاة التعايش والتعاون معهم. إلا أن افنيري قال في كتاب مفتوح وجهه إلى اكاديمي فلسطيني ان اسرائيل ستضطر الى الانسحاب الاحادي الجانب من الأراضي الفلسطينية لأنه "ليس من الجائز ولا هي قادرة على الاحتفاظ بهذه الاراضي طويلاً". إلى جانب الآراء التي تصدر عن بعض المفكرين والاكاديميين الاسرائيليين والمؤيدىن لاسرائيل، يقوم نشطاء ونشيطات من جماعات متنوعة بنشاطات واسعة من اجل حث الحكومة الاسرائيلية على سحب قواتها من الضفة الغربية والقطاع، وحتى الى تفكيك وسحب المستوطنات الاسرائيلية من هذه الاراضي. حركة غوش شالوم كتلة السلام نشرت اعلانات في الصحف الاسرائيلية تدعو الى تحقيق هذه الخطوات وصولاً إلى السلام مع الفلسطينيين. الى جانب "غوش شالوم" بادرت "حركة الامهات الاربعة" التي قامت بدور مهم في نشر فكرة الانسحاب الاحادي الجانب من الاراضي اللبنانية في الماضي الى اعادة تنظيم نفسها من اجل الدعوة الى الانسحاب من الضفة والقطاع، وكذلك حركة "النساء والامهات المؤيدات للسلام"، و "حركة نساء بلا حدود". ان بعض هذه الحركات التي كان لها الأثر الكبير في الضغط على الحكومة الاسرائيلية من اجل الانسحاب الاحادي الجانب من الاراضي اللبنانية يقول انه عندما بدأ نشاطه لتحقيق هذه الغاية، جوبه بردود فعل سلبية وعنيفة. ولقد وجه رجال المؤسسة الامنية الاسرائيلية الى دعاة الانسحاب الاتهامات بالخيانة وباضعاف الروح القتالية للجيش الاسرائيلي وبتقديم المساعدات المجانية وغير المباشرة الى "الارهابيين" اللبنانيين. ولقيت هذه الاتهامات اصداء واسعة عندما باشر الناشطون والناشطات الدعوة الى سحب القوات الاسرائيلية من الاراضي اللبنانية، الا ان الحال ما لبثت ان تغيرت بعد تصاعد عمليات المقاومة اللبنانية ومعها الخسائر البشرية بين قوات الاحتلال. الاسرائيليون يمرون الآن، في تقدير الباحث الاسرائيلي دان شويفتان، بالوضع نفسه، إذ انه "حيث ان معاهدة السلام بعيدة الاحتمال، فإن الانسحاب الاحادي الجانب بات مقبولاً بصورة متزايدة بين اكثرية الاسرائيليين". إن نجاح هذا النهج الاخير ليس سهلاً لأن الاسرائيليين يخشون ان يشجع الانسحاب الوحيد الجانب الفلسطينيين على نقل اعمال المقاومة الى داخل الخط الاخضر. ومعارضو هذا النهج يراهنون على تسرب اعراض التعب والارهاق واليأس الى اوساط الانتفاضة. ويأمل الاسرائيليون من مؤيدي شارون وباراك ان تتفوق اسرائيل على الفلسطينيين في لعبة عض الاصابع فيصرخ الفلسطينيون من الألم ويتراجعوا تحت وطأة الضغوط والتهديدات الاميركية والاسرائيلية المشتركة ويقبلوا بمشروع الحل الاسرائيلي. ان القيادة الفلسطينية قد توافق على تنازلات جديدة تقدمها الى الاسرائيليين درءاً للبديلين الاول والثاني، أي لخطر شن حرب اسرائيلية مفتوحة وشالمة ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، او لاحكام الحصار السياسي والاقتصادي والعسكري الاسرائيلي حولهم. في هذه الحال يسجل صقور السياسة الاسرائيلية انتصاراً كبيراً على الفلسطينيين، ويهببون من احتمال تكرار السابقة اللبنانية حيث خرجت القوات الاسرائيلية من ارض الاحتلال تعاني الخسائر والاذلال. * كاتب وباحث لبناني.