يتساءل المهتمون بمشكلة استهلاك نبات "القات" في اليمن حول ما اذا كانت حكومة الرئيس اليمني علي عبدالله صالح ستنجح في حملتها معالجة ما فشلت في تحقيقه حكومات يمنية سابقة، قبل وبعد وحدة شطري اليمن. فمنذ اعلان السلطات اليمنية عن هذه الحملة قبل اسبوعين، تتضاءل الآمال في نجاحها لأن معظم اليمنيين المولعين بعادة "تخزين" القات الموالعة، كما يسمون بمن فيهم وزراء ومسؤولون آخرون، يبدون عاجزين عن الاستغناء عن هذه العادة. مصطفى كركوتي يلقي ضوءاً على الموضوع: قدم الرئيس اليمني نفسه لليمنيين، عند الاعلان عن الحملة لمعالجة مشكلة استهلاك "القات"، كقدوة، بقراره التوقف عن استهلاك القات وتعهده بمحاولة اقناع اعضاء حكومته ليحذوا حذوه، ويتجهوا نحو ممارسة الهوايات الرياضية بدلاً من "التخزين". الا انه اعترف ان اتباعه في هذا الامر من بين المسؤولين هم اقلية، وقال: "نجحت في اقناع البعض من زملائي القريبين من الحكم مثل نائب الرئيس الهادي عبدربه منصور هادي ووزير الدفاع محمد ضيف الله... ولكني فشلت حتى الآن باقناع نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية عبدالقادر باجمال وان كان بدأ يمارس الرياضة جنباً الى جنب مع القات". يعرض الرئيس اليمني من خلال هذا التصريح صورة لواقع المجتمع اليمني نفسه وموقفه الراهن من مسألة استهلاك القات. اذ ان اعضاء الحكومة عينة عن تركيبة هذا المجتمع وعاداته وتقاليده. قلة قليلة من اليمنيين فقط رحبوا وأعلنوا عن استعدادهم التجاوب مع حملة حكومة بلادهم، في مقدمهم "الجمعية الوطنية لمواجهة اضرار القات" التي تأسست العام الماضي برئاسة وزير التربية اليمني السابق احمد جابر عفيف. فهذه الجمعية تصدر نشرة شهرية بعنوان "يمن بلا قات" وتقود حملات دورية نشيطة تهدف الى توعية الرأي العام بأضرار عادة "التخزين" من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والتنموية الخ... ولكن حملاتها لم تحقق حتى الآن ثمارها المطلوبة على رغم ابرازها مساوئ هذه العادة الخطيرة على بني الانسان اليمني. تقول هذه الجمعية ان اليمنيين "ينفقون يومياً 800 مليون ريال خمسة ملايين و700 الف دولار تقريباً لشراء القات، اي 300 بليون ريال مليونان و200 مليون دولار سنوياً". هذا الرقم مبالغ فيه، اذ انه يتجاوز موازنة الدولة نفسها التي لا تزال مصنفة عالمياً بين الدول الاكثر فقراً.التقديرات الرسمية تشير الى ان الرقم الواقعي لحجم الانفاق السنوي على القات قد يصل الى 120 بليون ريال يمني حوالى 850 مليون دولار. ولكن هذا الرقم ايضاً كبير اذا ما قورن بدخل الفرد اليمني ونسبة انفاقه على شراء القات التي تتراوح بين ثلث دخله ونصفه تقريباً، لا سيما ان الدخل المحلي من القات يشكل نسبة الثلث من اجمالي الناتج الزراعي لليمن، ونسبة 10 في المئة من اجمالي الناتج المحلي. وتجمع الدراسات المحلية على ان كل اليمنيين البالغين تقريباً فوق سن العشرين يمارسون عادة مضغ القات، ولم تعد هذه العادة تقتصر على الرجال بل باتت منتشرة بين صفوف النساء. وتقدر نسبة الرجال المستهلكين للقات ما بين 75 و90 في المئة، وتقديرها بين النساء يتراوح ما بين 35 الى 60 في المئة. والشيء اللافت، حسب الدراسات الميدانية التي تجريها الجمعيات الأهلية، ان النساء لم يعدن يجدن اي حرج بشراء رزم القات بأنفسهن بعد ان كان ذلك يقتصر على الرجال قبل وقت قليل. كما ان استهلاك القات ليس محصوراً بفئة معينة او طبقة اجتماعية دون اخرى، بل يشمل مختلف الطبقات الاجتماعية والمستويات التعليمية والثقافية والفئات العمرية. بل هناك من يقول ان حجم استهلاك وعدد المستهلكين للقات يرتفعان كلما ازداد اليمنيون ثقافة! اي ان نسبة استهلاك القات بين المثقفين هي اعلى من نسبة استهلاك غيرهم. في كل الاحوال الشخص خاصة الرجال غير المخزن الذي لا يتعاطى القات اضحى شخصاً شاذاً في المجتمع الذكوري، اذ لا يستطيع الاختلاط مع المخزنين وغالباً ما توجه اليه الملاحظات ويتعرض لتساؤلات تتناول سلوكه وذكوريته. ومن أبسط التهم الموجهة للرجل "الشاذ" تهمة البخل لأنه لا يخزن. يبدو ان للقات سحره العجيب الخاص به. فهو ليس مادة تحفز على الادمان، اي انها ليست كالمخدرات او الكحول التي يصعب على مدمنها التوقف عن استهلاكها. استهلاك القات هو عادة اكثر منها ادمان، يكمن سحرها في لحظة "التخزين" الذي يصيب المخزن بنشوة وقوة على التركيز لا تلبث ان تتلاشى بعد التوقف عن ممارستها بقليل، لتتحول الى حال من الاكتئاب مع فقدان الشهية الى الطعام والامتناع عن النوم. ويقول العارفون ان كلمة "تخزين" تعبر اكثر من كلمة "مضغ" عن هذه العادة السيئة، لأن المستهلك لهذه النبتة اللعينة القادمة من الارياف الى المدن، يقوم بتخزين المادة بعد مضغها ما بين الفك وجدار الخد الداخلي. ويجتمع اليمنيون عادة خلال فترة ما بعد الظهر وحتى المغيب لتخزين القات الذي يشترونه بعناية على شكل حزم من الاسواق، اذ اضحى بالنسبة لليمني العادي مادة يومية لا تقل اهمية عن الخبز - ان لم تكن اهم. وتشير الدراسات الى الوقت "المهدور" من حياة اليمنيين الذين يفقدون ما بين أربع الى خمس ساعات يومياً "في البحث عن القات وتناوله". فالقات اصناف وأنواع، وإذا كان عدد الذين يتعاطون القات ذكوراً وإناثاً، يفوق ثلاثة ملايين شخص، فان اجمالي الساعات التي يهدرها الموالعة بالقات خارج ساعات العمل الرسمية او اليومية يبلغ 14 مليون ساعة تقريباً في اليوم الواحد. حملة الحكومة اليمنية الراهنة ليست الحملة الأولى "وبالتأكيد لن تكون الاخيرة" وفق ديبلوماسي يمني يعمل في أوروبا. فقد ذكر هذا الديبلوماسي ان حكومة محسن العيني نظمت حملة في هذا الخصوص في الستينات في شمال اليمن، كما فعلت حكومة عبدالفتاح اسماعيل الماركسية في جنوبه، ولكن لم تنجح اي حملة في تحقيق اهدافها. فقط في جنوب اليمن السابقة استطاعت السلطات اليمنية لفترة وجيزة، تحديد ايام معينة في الاسبوع لتخزين القات وتخصيص بقية الأيام للعمل المنتج. وقد خلفت محاولة عبدالفتاح اسماعيل اعداء له في الارياف والمدن في آن، حيث كان يستقبل من اليمنيين اثناء تجواله بشعار "يا اسماعيل ويا كهنوت، النبتة وأنت تموت". المحاولات السابقة حدت من استخدام اراضي الدولة والأوقاف الزراعية لزراعة محاصيل القات، الا انها لم تتمكن حتى الآن من منع اصحاب الأراضي من المزارعين من زراعة هذه النبتة جراء الارباح الطائلة التي يجنيها هؤلاء المزارعون. فنبتة القات بطبيعتها سهلة الزراعة، كما ان الأرض الزراعية تنتج ثلاثة محاصيل سنوياً على الأقل. وهذا يضاعف من صعوبة معالجة مشكلة ايجاد حل للتغلب على عادة استهلاك القات. وقد يرى الرئيس اليمني بالحوار والاقناع السبيل الافضل نحو حل المشكلة، الا ان الحل يتطلب طاقات لا يستطيع اليمن وحده تقديمها. ولذلك فانه يجب على مؤسسة العون وهيئات التنمية العالمية ان تساهم في تمويل تأسيس صندوق دولي تقدم من خلاله البدائل الى المزارعين اليمنيين في الدرجة الأولى، كما المحاولات الجارية لمكافحة زرع وتطوير صناعة المخدرات في اميركا اللاتينية. والا فإن الحملة للتخلص من عادة القات في اليمن ستبقى مجرد نوايا حسنة.