أخضر الناشئين يكسب البحرين برباعية في كأس الخليج    أمير المدينة يستقبل وزير البلديات    "أمانة الرياض".. أنسنة مناطق مركزية في أربعة أحياء    69% تراجع بقضايا المزادات العقارية    مصر: القوات المنتشرة في سيناء تستهدف تأمين الحدود ضد المخاطر    اليوم الوطني المجيد والمرونة التي تحفظ الوطن وتعزز أمنه    النصر يقسو على الرياض بخماسية ويحافظ على الصدارة    خيسوس يدافع عن العمري ضد صافرات استهجان جماهير النصر    نائب أمير منطقة القصيم يستقبل محافظ الأسياح وفريق أبا الورود التطوعي    المملكة تُخفّف معاناة المحتاجين    نائب أمير الشرقية يرأس اجتماع مجلس هيئة تطوير الأحساء    نائب أمير تبوك يكرّم الفائزين بجائزة صيتة    الأدب بين الخلود والاستهلاك    خطيب المسجد الحرام: استحضروا عظمة الله وقدرته في كل الأحوال    إمام المسجد النبوي: من أراد الهداية فعليه بالقرآن    شرطة الرياض تقبض على (3) أشخاص لاعتدائهم على آخر    كسوف جزئي نادر غير مرئي عربيا    التعادل السلبي يخيّم على مواجهة الحزم والفتح    النصر يكتسح نادي الرياض بخماسية ويستعيد الصدارة من الاتحاد    النصر يتفنن على الرياض بخماسية    هجوم سيبراني في مطارات أوروبية كبرى يثير مخاوف أمنية    عبدالرحمن الأحمدي يكتب.. إنزاغي وجماهير الهلال!    أسباب شائعة للعقم عند الرجال    Al يتوقع إصابتك ب1000 مرض    رئيس صحيفة الشعب الصينية يستقبل رئيس التحرير    خطب الجمعة تعزّز مشاعر الانتماء والولاء للوطن    المملكة تكرّم علماء العالم    الحكومة اليمنية تعرب عن تقديرها البالغ للدعم الاقتصادي الجديد المقدم من السعودية    201 مبتعث ومبتعثة في نخبة جامعات كندا    تشابي ألونسو: الانتصار على إسبانيول خطوة مهمة في مسيرة تطور ريال مدريد    التغذية الراجعة فلسفة إدارية ناجحة    ضمان الزواج    استبشروا خيرا    ولي العهد والرئيس الفرنسي يناقشان نتائج مؤتمر حل الدولتين وتفعيل الجهود الدولية    البريطانيون والرياضيات التطبيقية    جمعية التنمية الأهلية في فيفاء تنفذ مبادرة "بصمة إبداع"    الجدية في طلب العلم النهوض وميزان الحضارة    واجبات ومحظورات استخدام علم المملكة    «الداخلية»: العلم السعودي .. مجدٌ متين .. وعهدٌ أمين    أهالي محافظة طريب يطلقون مبادرة عودة سوق الاثنين الشعبي يوم الاثنين القادم    الشؤون الإسلامية في جازان تشارك في البرنامج التوعوي للوقاية من التدخين    رؤية 2030 والسيادة الرقمية    جودة التداوي والكسب المادي    حق التعليم لا يسقط بالتقادم أين مرونة القبول    أثر الحوار في تعزيز المشاركة لدى طلاب الثانوي    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الرويلي يشهد حفل تخريج دورة التأهيل العسكري للأطباء الجامعيين ال 12 من طلبة كلية الأمير سلطان العسكرية للعلوم الصحية بالظهران    المرور : ترك الطفل وحيدًا داخل المركبة.. خطر يهدد حياته    جمعية نمو للتوحد تحتفي باليوم الوطني ال95    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع مجلس هيئة تطوير المنطقة    نائب أمير تبوك يكرّم الفائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز للتميز في العمل الاجتماعي    نائب أمير تبوك يدشن حملة التطعيم ضد الانفلونزا الموسمية    قطر: حرب إبادة جماعية    السعودية تطالب بوضع حد للنهج الإسرائيلي الإجرامي الدموي.. الاحتلال يوسع عملياته البرية داخل غزة    نائب أمير تبوك يكرم تجمع تبوك الصحي لحصوله على جائزة أداء الصحة في نسختها السابعة    أمير جازان يرأس اجتماع اللجنة الإشرافية العليا للاحتفاء باليوم الوطني ال95 بالمنطقة    محافظ الأحساء يكرّم مواطنًا تبرع بكليته لأخيه    إطلاق مبادرة تصحيح أوضاع الصقور بالسعودية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قيام
نشر في الحياة يوم 08 - 07 - 1998

حتى ذلك العام لم أتعرف على البحر، بالضبط سنة واحد وستين وتسعمئة والف، تجاوزت السادسة عشرة بشهرين، في تموز يوليو خرجت من بيتنا في الجمالية بصحبة والدي، مرتدياً زي فرق الفتوة العسكري الرمادي، قصدنا محطة مصر حيث تجمع كتيبة مدرسة العباسية الثانوية الصناعية، أصر أبي على صحبتي، على توديعي، انها المرة الاولى التي اغيب فيها اسبوعين متصلين عن البيت، صحيح انني خرجت مع فريق الكشافة خلال دراستي الاعدادية في رحلات الى القناطر الخيرية والى حلوان والى ساحة مسجد الحاكم بأمر الله الذي كان خرباً في ذلك الحين، لكنني لم أركب قطارات ولم تطل غيبتي إلا ليلة واحدة، الأمر هذه المرة يختلف.
عندما أصبحت فرداً في الجمع، وانتظمنا صفوفاً للإتجاه الى القطار، ودّعت أبي بالنظر، صرت مرحاً، خفيف الخطى، ذلك أنني وقفت على ما سرني، للمرة الاولى سأركب الاتجاه المضاد، الرصيف مغاير، والعربات تتجه الى بحري وليس الى قبلي، سيتاح لي الوقوف على ما يوجد هناك، رؤية التفاصيل المغايرة، ارض اراها للمرة الاولى، بعد تحرك القطار المتمهل في البداية، المتزايد، بعد ان نما الى سمعي صفيره المتصل هف قلبي الى اهلي، وعرفت تلك الحكمة التي ستفجأني مثلما شرعت صوب رحيل ما وان اختلفت الشدة من مرة الى اخرى، فندقت عيناي لتحتويا ما يراه البصر. محطات مختلفة، ليس في الأسماء فقط، أنما في المظهر. ربما بتأثير الحقول الممتدة الخضرة، شاسعة الأفق، قصية الحد. بنها، بركة السبع، طنطا، كفر الزيات، دمنهور، كفر الدوار، سيدي جابر، محطة النهاية شاسعة. تبدو أفسح وأرحب من محطة البداية، سقف حديدي شاهق، مكان منتظم الأطر. له مهابة.
انتقلنا الى قطار آخر، العربات أضيق، السرعة أبطأ، لكن ثمة نسمات هفهافة وصلت الينا عبر نوافذه، قادمة من هناك، من المدى. لينة لم أعرف مثلها، أحياناً فوق سطح بيتنا القديم، أثناء وقوفي محدقاً الى الأفق، نسمات خريفية عذبة، لكنها تنقطع أو تقوى فتثير قشعريرة، تلك مغايرة.
ها هو.. بالضبط ما بين محطة المنتزه والمعمورة، فَرْجة تتخلل البيوت، طريق ضيق يؤدي اليه، ينحدر صوبه، كل الطرق كما عرفت وعاينت فيما بعد تؤدي نحوه، أو تمضي بحذائه، غير أن لونه أينعني وجدد حضوري وتبتني على التوق اللا محدود، والشوق الدائم الى الضفاف غير البادية، وألمح لي بمرجع الأبدية، خاصة اللون!.
لحظة فارقة، دافقة، ورغم أنني لمحته على البعد لكن الصلة استؤنفت على الفور، قديمة لم أعرفها في وعي، وان ظلت كامنة حتى اثارها رؤيته في ذلك النهار السكندري ومن خلال القطار. درجة من الزرقة العميقة، ازرق يولد من ممثله، متصل بأفق يعلو مرتفعاً بصداه. توجهت اليها، ليس بالنظر، ولكن بكل ما يمكنني إرساله أو تلقيه، وهذا وضع بدأته في تلك اللحظة ولزمته مراراً في أطوار أخرى، لكن شرط نشوئه لا يكون إلا في مواجهة البحر، أو فراغ ما، أفق أطل عليه من نافذة، شرفة على واد. او ذروة مرتفع جبلي، أو أثناء تحليق علوي فوق البحر المحيط أو احدى القارات الست، عندما ألزمه يكتمل انفرادي وتوحدي، لا يعادل ذلك إلا اللحظات التي تسبق نومي، وأبلغ فيها أقصى توحد بالذات، بي، وهذا من طبيعة الانسان وكل المخلوقات الساعية، فلا أحد يدلج الى النوم بصحبة آخر. الأصل في الوجود الوحدة والعدم الذي ربما يؤدي الى وجود آخر. قبل تلك الطلة، انفجار هذه المشاهدة. لم ار البحر من قبل. سمعت عنه من أبي عندما تحدث عن أقاربنا الذين رحلوا الى الاسكندرية، أحيانا يعني بالبحر النيل. هكذا يطلق عليه أهلي في الجنوب. البحر يعني هناك النهر خصوصاً في زمن الفيضان المعروفة بالدميرة، وفيها كانت تحاصر جهينة الشهور الأربعة الصيفية، كان الوصول الى ديارنا في ربع حسام الدين لا يتم الا بواسطة اقرب، في الحارة سمعت بسفر أسرة عم حسن المسحراتي للتصييف، امرأته البيضاء، الدلوعة، تصغره سناً، هناك ترتدي المايوه وتنزل الى البحر مثل بطلات فيلم "السباحات الفاتنات" الذي عرضته سينما "الكواكب" في الدراسة.
لا شيء يدل على البحر إلا الموج وتدافعه ولطمه اليابسة وزبده الأبيض والمدى، لا السينما ولا اللوحة ولا الوصف مهما دق، هذه الزرقة كونية المصدر علقت بذهني ونزلت منه موقعاً مرجحياً، لعلي أفيض في تدوين آخر عن البحر، التفاصيل شتى والبلاغ خضم.
بلغنا المعسكر، خيام منصوبة بترتيب وانضباط، توزعنا عليها، ثلاثة في كل منها، لا يفصلنا عن البحر إلا رمال الشاطىء، الناعمة، الخصبة، العتيقة، مبانٍ متناثرة تخص الصيادين، مقاهٍِ بسيطة مشرفة، لم أجلس بها. لم أعرف بعد عادة التردد على المقاهي منفرداً، لكنني بدأت التأمل وتسديد البصر، لم أتعلم العوم، ولم يكن لديّ لباس بحر يمكنني من النزول إليه وملامسة جسدي لمائه، اكتفيت منه بالنظر، وتعددت منذ تلك الفترة مرات نظري اليه، ومواضع وقفاتي ولهذا تفصيل يطول.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.