لا تمعن المخرجة لينا أبيض في عرضها المسرحي "سجن النساء" في تصوير أحوال السجن والسجناء مقدار ما تسعى الى جعل السجن إطاراً لبعض الشخصيات النسائية اللواتي عشن تجربة السجن فترة قصيرة. فهي تنطلق أصلاً من المذكرات التي كتبتها نوال السعداوي في السجن الذي زجّت فيه قرابة شهرين في عهد أنور السادات وتحديداً عام 1981. لكنّها تضيف إلى مذكرات السعداوي شهادات أخرى من بعض الكاتبات اللواتي زججن في السجن نفسه وفي الفترة نفسها ومنهنّ لطيفة الزيات وأمينة رشيد وصافيناز كاظم. لا يجد المشاهد نفسه أمام السجن فقط بل أمام سجينات في سجن النساء بل في سجن القناطر المخصّص للنساء. فالسجن الذي شاءته المخرجة واقعيّاً تتقدّمه منصة ضمت غرفة التحقيق وزاوية جلست فيها الراوية مؤدّية شخصية الكاتبة الجالسة الى طاولة الكتابة، وكانت من حين الى حين تسرد مقاطع من المذكرات الحقيقية. أما ما جرى داخل السجن فكان مركّباً تركيباً مشهديّاً جميلاً: خلف السياج الحديديّ يقع السجن القديم وباحته الترابية. غير أن السجن الذي احتلّت جوانبه بضعة أسرّة يفضي الى حمام لم تظهر منه إلا المغسلة. هكذا نجحت المخرجة في اعتماد سينوغرافيا متدرّجة تبدأ من طاولة الراوية - الكاتبة وتنتهي في غرفة الحمام من جهة وفي باحة خارجية لم تظهر منها إلا شجرة من جهة أخرى. وان لم توظف المخرجة مكتب التحقيق كثيراً فهي جعلت من السجن واجهة الخشبة ووراء السياج الحديدي ظهرت النسوة السجينات في تناقضهنّ وفي خلافاتهن الشخصية الصغيرة. لم تسعَ المخرجة في اقتباسها مذكرات نوال السعداوي وشهادات الكاتبات الاخريات الى خلق شخصيات درامية وإلى شبكِ علاقات عميقة في ما بينها بل اكتفت في تقديم الشخصيات كما هي في واقعها اليومي والحياتي وفي سلوكها الفكريّ والأخلاقيّ. انها شخصيات مقطوفة من الواقع، شخصيات حقيقية في معظمها، بعضها يميل الى أن يكون "نموذجياً" وبعضها يكتفي بما منحته المخرجة من ملامح وقسمات. وكان في إمكان المخرجة لو شاءت، أن تعتمد دراماتورجيا أخرى، رمزيّة أو درامية صرفة. فالسجن ولا سيّما سجن النساء يغري الكتّاب عادة والمخرجين وعالمه الداخلي قابل للتأويل النفسي والجمالي. إلا أن لينا أبيض أرادت عرضها واقعياً وواقعياً شعريّاً، بعيداً كل البعد عن الترميز والميلودراما. وليس من قبيل المصادفة أن تقتبس بعضها الشهادات النسائية من فيلم وثائقي للمخرجة تهاني راشد وعنوانه "أربع نساء من مصر". وإن بدا الطابع الوثائقي خفراً في العرض المسرحي فهو لم يغب كلياً. فالوقائع التي حصلت كي لا أقول الأحداث والحوارات التي جرت بين السجينات والمونولوغات التي انفردت بها إحدى الشخصيات لطيفة الزيات توحي جميعاً بجو شبه وثائقي. لكن المخرجة جعلت من تلك الوثائق ذريعة لبناء مناخ مسرحي هو مناخ السجن النسائي، والمسرحية هي أوّلاً وآخراً مسرحية مناخ أكثر من كونها مسرحية شخصيات وعلاقات وأحداث. خمس عشرة سجينة هنّ في معظمهن من ضمن الموقوفات والموقوفين الذين طالتهم حملة الاعتقالات الشهيرة وقد قامت بها الدولة المصرية عام 1981 بُعيد توقيع معاهدة كمب ديفيد. وقد رُمي الجميع في السجون من دون محاكمة، والتهمة هي ارتكاب جرائم ضدّ الدولة. إنها تهمة سياسية صرفة إذن قادت النسوة الى الجناح "السياسي" في السجن. لكن النسوة القابعات وراء السياج الحديدي لن يتوانى بعضهن عن اتهام بعضهن اتهامات مختلفة تعبّر عن تناقضهن وعن اختلاف عقائدهن وانتماءاتهن. ونجحت المخرجة في جعل النسوة الأصوليات والمتشددات يؤلفن فريقاً داخل السجن ففصلتهن عن الأخريات وألبستهن الملابس نفسها واستخدمتهن في أحيان لتشكيل بعض المشاهد الطريفة وإضفاء بعض الطرافة على جوّ المسرحية. أما النسوة الأخريات فتوزّعن بحسب نماذجهن، فهن نسوة واقعيات أكثر منهن شخصيات متخيّلة أو مخلوقة. هكذا برزت نوال السعداوي تمارا حجّار ولطيفة الزيات عبير همدر وأمينة رشيد ميرا بيضون وصافيناز كاظم دينا دحبورة وفوقية وفتحية وسواهن. وكان لا بدّ أن تكون نوال السعداوي الأجرأ بينهن فهي التي لم تكفّ عن الاحتجاج والاعتراض داخل السجل وخارجه أي في غرفة التحقيق. وعلى رغم كراهية الأصوليات لها واتهامهن إياها بالكفر لم تنثنِ عن توجيه السجينات وعن الدفاع عن حقهن جميعاً، وسعت الى إنهاضهن من اليأس داعية إياهن الى الأمل الذي لا يأفل. ولم تتوانَ عن إطلاق بعض "الشعارات" كالحرية والتحرّر معتبرة أن سلاحها الوحيد هو القلم وأن السجان لن يمنعها من الكتابة حتى وإن صادر قلمها وأوراقها. ويبرز نموذج نسائي آخر من خلال المناضلة الماركسية التي لا تنفك عن إلقاء الخطب بالفصحى داعية الى النضال من أجل الفقراء. وفي السجن أيضاً تطلّ المثقفة الفرنكوفونية التي تتكلّم بالفرنسيّة غير آبهة للنسوة اللواتي لا يعرفن غير العربية. أمّا لطيفة الزيات فمثلت من خلال النص الذي ألقته شخصية المرأة الرقيقة والإنسانية في نضالها السياسي. إنها نماذج مختلفة ومتنافرة تلتقي وراء السياج الحديدي ولا يندمج بعضها ببعض. نماذج نسائية تعيش عزلتها حتى داخل السجن الصغير، يجمعها النضال الواحد ويفرّقها السلوك والأسلوب والانتماء. كل امرأة تناضل على طريقتها وفي أحيان من أجل غاية واحدة. حتى السجّانة هالة مصري بدت نموذجاً للمرأة السجينة بدورها، بل للمرأة الضحية، ضحية الفقر والحاجة. وكذلك خادمة السجن التي جيء بها من الشارع وفتحية التي قتلت زوجها بعدما اغتصب ابنتها... إلا أن النمذجة التي بدت واضحة لم تسىء الى العرض المسرحي ولا الى النص. فالمخرجة أعدت نصها انطلاقاً من المنطق الوثائقي لترسم جوّ السجن النسائي بحدّة وطرافة وواقعية وشاعريّة. غير أنها لم تسقط السخرية من حسابها ولكن من دون أن تقع في المجانية والمبالغة، وهكذا وجد الجمهور متنفساً في مشهد الأصوليات المنكمشات على أنفسهن أو في شخصية المحقق شبه الكاريكاتورية وكذلك في الرقص الذي أدّته إحدى السجينات داخل السجن. ولم تلجأ المخرجة الى النمذجة إلا لتظهر مدى التناقض الذي يحياه لا المجتمع فحسب وإنما المجتمع النسائي أيضاً. فالاختلاف بين امرأة وأخرى وبين مجموعة وأخرى ليس إلا دليلاً على حال التناقض الذي تحياه المجموعات البشرية الكبيرة. لكنّ السجينات المتنافرات لن يلتقين إلا في الختام على نبأ مقتل الرئيس أنور السادات مهندس اتفاق كمب ديفيد. ولا تتوانى النسوة، كلّ النسوة عن إطلاق صيحات الفرح والانتصار لدى انتشار الخبر. لا تُظلم مسرحية "سجن النساء" إن وصفت في كونها مسرحية مناخ فالمخرجة لم تطمح إلى أكثر من رسم المناخ العام الذي عاشت فيه النسوة السجينات وإلى بناء عرض قائم على لعبة الممثلين الجماعية مقدار قيامه على البعد الجمالي والتشكيل البصري وعلى السينوغرافيا الجميلة والإضاءة. فالممثلات ظللن بعيدات عن الجمهور ومحصورات في العموم داخل السجن ووراء السياج الحديدي. وبدا تركيز المخرجة على حركتهن الجماعية وأدائهن الجماعي حلاً ممكناً جداً ومؤاتياً. فمن وراء قضبان السجن تتساوى النسوة جميعهنّ حتى وان اختلفن في الداخل واختلفت مواقفهنّ وآراؤهنّ.