يصعب على المقيم في باريس والمتتبّع لنشاطاتها الثقافية أن يستوقفه حدث ثقافي واحد طوال عام بأكمله. ومع ذلك، سأتوقف في هذه العجالة اللاهثة قبل نهاية العام، عند كتاب أدهشتني قراءاته وهو بعنوان: "تأريخ للقراءة" منشورات اكت سود للروائي والباحث الأرجنيني ألبيرتو مانغيل الذي حاز أخيرا على جائزة "ميدسيس" الفرنسية المخصّصة للبحوث. والكتاب مراجعة هي الأولى من نوعها بهذا الحجم لطبيعة القراءة وأدواتها وطقوسها عبر العصور، منذ الألواح الطينية في الحضارة السومريّة والمنجزة في الألف الرابع قبل الميلاد وحتى شاشة الكومبيوتر. يغوص الكتاب في أسرار القراءة ويتطرّق الى موضوعات وعناوين متنوّعة ومنها: قراءة النصوص، قراءة الصّور، القراءة بصمت، الكاتب القارىء، المترجم القارىء، سارق الكتب، مجنون الكتب، القراءات الممنوعة... ونتوقّف عند العنوان الأخير، وهو الأقلّ سحرا والأكثر واقعيّة. في مرحلة العبودية التي ظلّت سائدة حتى منتصف القرن التاسع عشر، ألم يكن ممنوعا على السود في اميركا تعلّم القراءة؟ ألا يعترض بعض الأهل في بعض المجتمعات المتخلّفة على تعليم البنات "حتى لا يستطعن قراءة الرسائل العاطفية أو كتابتها"، بحسب تعبير أحد الآباء كما ورد أخيراً في احدى الصحف العربية؟ مالكو العبيد، مثل الحكّام المتسلطين أصحاب الحكم المطلق وعوا منذ قديم الزمان أن السيطرة على شعب جاهل لا يقرأ أسهل بكثير من السيطرة على شعب متعلّم. فالقراءة جواز سفر الى الحريّة وإمتلاك واحدة من الوسائل الأساسية للدفاع عن الذات. في مقالة نقدية ساخرة بعنوان "عن خطر القراءة الهائل"، كتب فولتير يقول إن الكتب تبدّد الجهل، والجهل حارس الدول وضامن لحمايتها. ومعروفة قصص إحراق الكتب عبر التاريخ ومن أشهرها تلك التي أمر بها الامبراطور الصيني شيه هوانغ عام 213 عندما حاول أن يتخلّص من القراءة بإحراق كل الكتب الموجودة في مملكته. وفي الزمن الحديث، مع المانيا النازية ومع بينوشيه الذي منع كتاب "دونكيخوته" لأنه، على حد تعبيره، يشكّل دفاعا عن الحرية الفردية وخطرا على السلطة القائمة. ولماذا نبتعد كثيرا في التاريخ والجغرافيا وحولنا ما حولنا في ما يتعلّق بالكتب والمؤلّفين... القراءة، كما يقول بورخس وكما يكرّر مانغيل في كتابه "تأريخ للقراءة"، تأتي قبل الكتابة. قد يستطيع مجتمع ما أن يعيش بدون الكتابة، لكنّه لا يستطيع أن يعيش بأي حال من الأحوال بدون القراءة. وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نعيش نحن في مجتمعاتنا اليوم؟ الى القراءة، لا أزال أنتظر أيضا وبدهشة متعاظمة يوما بعد يوم، ما تحمله إليّ أخبار "هابل"، ذلك الكتاب الآخر المفتوح على الفضاء اللامتناهي، المصغي الى أسرار الكون البعيد، راصدا ولادة النجوم وموتها، وهو صورة للتطوّر العلمي الهائل الذي تغيّر معه تاريخ الإنسان... عبر "هابل" لا أنظر الى الثورة التقنية والتكنولوجية من خلال توظيفها السلبي من أجل المزيد من السلطة والاستئثار والمال، وإنما من خلال قدراتها على إثارة الدهشة وعلى طرح أسئلة جديدة على العالم ومحاولة استكناه أسراره، بعيدا من الإجابات الجاهزة والمكتملة، الآن وعلى مرّ الدهر. * كاتب لبناني مقيم في باريس.