على رغم مرور سبع سنوات على ثورة «الحرية والكرامة» في تونس لا زال الجدل قائما حول إمكان إرساء هاتين القيمتين من أجل ضمان التعايش بين مختلف مكونات المجتمع في كنف التّسامح والعدالة. فمعركة «الكرامة» ما زالت في أوجها بسبب تراجع الاقتصاد التونسي وتفاقم البطالة وغلاء المعيشة، أما معركة «الحرية» فقد وجدت في الصراع الايديولوجي أرضية مناسبة لتعميق الهوّة بين التقدميين والمحافظين في غياب نقاش عقلاني جدّي. وإضافة إلى التأكيد على الحريات العامة والخاصة المطلقة ينصّ دستور تونس الجديد على «حرّية الضمير». هذه العبارة تمنح المواطن التونسي الحق في ممارسة كلّ ما يرغب في القيام به من فنون وشعائر وطقوس فنية ودينية شرط ألا تمسّ أمن وسلامة الآخرين. وعلى هذا الأساس بدأ الشارع التونسي في اختبار صنوف جديدة من «الحريّات» لم تكن متاحة من قبل، مما خلق حالة من الصدمة والهلع لدى فئة من الشعب ترجمت برفض بلغ حدّ المطالبة بتنقيح الدستور أو إلغائه بدعوى تعارض بعض فصوله مع الدين الإسلامي ومع الأعراف التي يفرضها المجتمع. وعلى رغم أن الخلاف بين المتشددين الدينيين والتقدميين في تونس قديم متجدد، إلا أنّ الشروع في «الاستمتاع» بالحريات التي كفلها الدستور أثبت أن الأمر ليس بالسهولة التي كتبت بها القوانين. حول هذا الصراع تقول الصحافية والناشطة أمل الهذيلي ل «الحياة» إن «المعركة ثقافية قبل أن تكون قانونية». وتشرح الهذيلي: «بداية يجب أن نؤكّد أن السبب الأساسي للصراع الدائر حول تطبيق الحريات هو التضارب الذي يشوب فصول الدستور. فهذا النص الذي يكفل جميع الحريات ينص في أحد فصوله على تمسكه بمقومات الهوية العربية الإسلامية، الأمر الذي من شأنه أن يخلق فهماً مختلفاً لدى كل طرف من أطراف الصراع». وتضيف: «هذا التناقض يتعمّق بوجود قوانين قديمة لم يتم بعد التخلّص منها تحدّ بصفة واضحة وصريحة من الحريات الفردية، كالقانون الذي يسمح بإجراء الفحوصات الطبية الخاصة بالمثليين ويسمح بسجنهم». وتتابع الهذيلي: «معركة الحريات لا تحسم بالقوانين بل هي معركة ميدانية، هي حرب بين العقول، بعض التونسيين يسمحون لأنفسهم بإملاء قواعدهم الخاصة على الآخرين ويطلبون منهم الانصياع لها». ومنذ مدة قام مواطنون بالتظاهر لمنع الراقص التونسي رشدي بلقاسمي من تقديم عرض بمدينة «الشابة» بدعوى أن ما يقوم به «لا أخلاقي»، على رغم أن الرقص الذكوري في تونس أمر شائع ومقبول منذ عقود، وبلقاسمي تحديداً، ليس حديث العهد في هذا المجال. وعلى رغم أن القانون يسمح للراقص بالقيام بعرضه ، إلا أن أعراف المجموعة الرافضة كانت الأقوى فألغي العرض. وعليه فإن منع تكرار هذه الحادثة لا يتطلب قوانين جديدة بل يستوجب إرساء مفاهيم جديدة في عقول الرافضين «وهذه هي المعركة الحقيقية» على ما تقول الهذيلي. الراقص رشدي بلقاسمي من جهته قال ل «الحياة» إنه «نجح في التعايش مع الرفض وحوّله إلى طاقة إيجابية مكنته من تطوير فنه». وشرح قائلاً: «يضمن الدستور اليوم الحريات بأنواعها ولكن القوانين والتشريعات تحتاج إلى مزيد من الوقت لتتحول إلى ممارسة عامة. فالمجتمع التونسي في أغلبه يرفض التخلي عن تقاليد ونواميس الأسلاف. اليوم بإمكان أي رجل دين أن يؤثر في عقول الشباب اليافعين ويوجّه سلوكهم وفق رغبته استناداً إلى فهمه الخاص للنصوص الدينية في تغليب العنف وتناسي قيم التسامح.» وفي حديث مع «الحياة» انطلق الباحث في علم النفس الاجتماعي، الفرنسي المقيم بتونس ريشارد جيل، من خبر إطلاق مثليين تونسيين لراديو خاص وما أثاره من جدل حاد، ليؤكد أنّ ما يحدث من نقاش هو «فوضى خلاقة» ضرورية في هذه المرحلة الانتقالية. وقال الباحث: «القانون وحده لا يكفي، فتونس تحتاج اليوم إلى الحوار من أجل كسب معركة الحريات. لا يمكن أحد أن يفرض ممارسات جديدة على عقول «قديمة»، بل يجب تجديد العقول وتليينها. وهذا الأمر لا يتم إلا عبر تقريب وجهات النظر عبر تنظيم مناظرات وملتقيات تجمع الطرفين على طاولة الحوار. دور وسائل الإعلام مهم جداً، وأنا لاحظت أن الخطاب الإعلامي يكون دائماً أحادي الجانب ومتطرف وهذا خطأ لا يخدم القضايا العادلة».