لن تُخطئ رائحة الكاري وجوز الهند والرز البسمتي واللحم الضاني بالحمص وأطباق البرياني، وأنت على مدخل ذلك المبنى العتيق المحشور المنهك في «منطقة ستراند» في وسط لندن. ستقودك رائحة خبز النان الساخن إلى الدور الثاني من المبنى حيث مطعم «النادي الهندي»، أحد أقدم مطاعم الكاري في بريطانيا. على السلالم الضيقة المتعبة، ستلاحظ أن الحوائط لا تحمل فقط لائحة الطعام، بل أيضاً نداء يدعوك للتوقيع لإنقاذ «النادي الهندي» من الإغلاق. النداء وقعه عشرات الآلاف حتى الآن، وأثار ضجة في بريطانيا لأسباب لا تتعلّق فقط بالحفاظ على أحد أقدم المطاعم الهندية في لندن، بل بدوره السياسي ورمزيته التاريخية. «هذا مطعم جواهر لال نهرو» يقول شاجيز، أحد العاملين في المطعم موضحاً ل «الحياة». فالمطعم المقابل للمفوضية العليا الهندية، جزء من تاريخ حركة الاستقلال الوطني الهندي. ففي عام 1928، تولى كريشنا مينون، خريج «مدرسة لندن للاقتصاد» رئاسة «الرابطة الهندية» في بريطانيا التي تُعد أهم منظمة مدافعة عن استقلال الهند عن التاج البريطاني منذ مطلع القرن ال20. مينون، الذي أسس لاحقاً دار نشر بانغوين الشهيرة في لندن، أصبح أيضاً أول مفوض سامٍ هندي في بريطانيا عندما حصلت بلاده على استقلالها عام 1947. وبعدها أنشأ مع جواهر لال نهرو، أول رئيس وزراء للهند المستقلة، «النادي الهندي» حيث عقدت اجتماعات كثيرة حول استقلال الهند والعلاقات مع بريطانيا. لم يتغيّر شيء في هذا النادي منذ أنشئ في أربعينات القرن الماضي. الأساس والديكور والصور والإضاءة ذاتها. الطاولات من خشب الفورميكا القديم والمقاعد الخشبية المحشوة والمغطاة بجلد أخضر زاهي اللون لا تزال كما هي. لكن في عاصمة مثل لندن حيث منطق رأس المال يتغلّب أحياناً على الأهمية التاريخية والدلالة السياسية، قدّمت شركة «مارستون العقارية» المالكة للمبنى، طلباً إلى السلطات المحلية في «حي ويستمنستر» من أجل الحصول على إذن لتجديد المبنى وتوسيعه في أيلول (سبتمبر) الماضي. ومنذ ذلك الحين بدأت الحملات لإنقاذ المطعم. ويقول يادجر ماركير الذي يدير المطعم منذ عام 1997 والذي ينتهي عقد انتفاعه به بعد سنتين، إنه من الناحية القانونية لا يستطيع أحد أن يجادل في حق الشركة المالكة للمبنى في تطويره بما يتناسب مع موقعه العريق واحتمالات المكسب الكبير منه. لكن من الناحية التاريخية «يُعد هذا تهديداً لأثر تاريخي». وفضلاً عن طلبات قدّمت إلى المجلس المحلي في ويستمنستر لوقف خطط تطوير المبنى بما يؤثر على «النادي الهندي»، قدّم ماركير أيضاً طلباً إلى السلطات لاعتبار المبنى «أثراً تاريخياً» لا ينبغي تغيير معالمه، وينتظر أن يصدر القرار في مطلع 2018. ف «النادي الهندي»، كما يرى الراغبون في الحفاظ عليه هو «صانع» العلاقة التاريخية الطويلة والمعقدة بين بريطانيا وواحدة من أشهر وأصعب مستعمراتها السابقة و «شاهد» عليها. وهي العلاقة التي تزداد تعقيداً كلّما حاولت الهند إعادة تقويم ميراث الامبراطورية البريطانية، فتغض لندن نظرها وترفض الاعتراف بالذنب، ناهيك عن الاعتذار. البريطانيون من أصول هندية، الذين استقدمتهم «المملكة» بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة بناء ما دمّرته الحرب، يشعرون بوطأة الرواية البريطانية الرسمية السائدة عن تاريخهم المشترك. ففيها «لم يكن الاستعمار استعماراً»، إنما «حكم بريطاني للهند أفاد واستفاد». «ما يُروى في كتب التاريخ هنا مختلف عما عاشاه والدي. كهندية- بريطانية لا أدري كيف أُوفق بين الروايتين»، تقول الشابة أميتا ل «الحياة» عن صعوبة تعامل الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين الهنود مع تاريخ مُحمّل بالتناقضات. خصوصاً مع كثرة الكتب التي تصدر في الهند وتلقي أضواء جديدة على التجربة الاستعمارية البريطانية فيها، من دون مراجعات مماثلة في بريطانيا. ففي مطلع القرن ال18 عندما احتلتها بريطانيا، كانت الهند واحدة من أغنى الدول في العالم، ومركز لصناعة المنسوجات والحديد والسفن. لكن خلال 200 عام، حوّلها الاستعمار إلى واحدة من أفقر الدول. جُردت الهند من ثرواتها الطبيعية وسُلبت صناعاتها وتوجهت إلى بريطانيا وفي مقدمها صناعات النسيج بعدما أدت الأموال التي أرسلت للخزانة البريطانية إلى تمويل الثورة الصناعية في بريطانيا. ثم أودت سلسلة مجاعات على مدار قرنين بحياة حوالى 30 مليون هندي، أفدحها مجاعة البنغال التي أودت بحياة أكثر من 4 ملايين شخص خلال الحرب العالمية الثانية، عندما تعامل رئيس الوزراء البريطاني آنذاك وينستون تشرشل، مع الهند بوصفها «سلة غذاء»، فحوّل المخزون الغدائي والمحاصيل إلى أوروبا كيلا تجوع خلال الحرب. وعندما اشتكى ضباط بريطانيون له من موت مئات الآلاف في البنغال، كتب تشرشل بخط يده على طرف المذكرة التي تسلمها منهم متهكماً: لماذا لم يمت غاندي؟ وتظهر إحصاءات أخيرة أن الهند دفعت 80 بليون جنيه استرليني في مجهود دعم الحرب. لكن دورها يُحجب تماماً لمصلحة السرد البريطاني. فنادراً ما يُذكر أن بريطانيا جنّدت في جيشها حوالى مليون هندي قُتل غالبيتهم. أيضاً لم يكن تقسيم الهند و «ولادة» باكستان إلا نتيجة مباشرة، وبعضهم يقول متعمّدة، للسياسات البريطانية، حيث قتل مليون شخص في أعمال العنف والتهجير القسري وتبادل السكان بين البلدين لاحقاً. وأخيراً عندما أُجبرت بريطانيا عام 1947 على الخروج من الهند، كان أكثر من 90 في المئة من الهنود تحت خط الفقر. لا يُدرّس تاريخ الإمبراطورية في الكتب المدرسية في بريطانيا. وإن ورد في بعض النصوص فصل عن الإمبراطورية، يُغلّف بطريقة إيجابية، ففي النهاية الاستعمار البريطاني كان أرحم وأفضل من الاستعمار الألماني أو الفرنسي. أو هكذا يعتقد بعض البريطانيين كمخرج لعدم الاعتذار أو منعاً للشعور بالذنب. ليام فوكس، وزير التعاون الدولي البريطاني غرّد على حسابه على «توتير» قبل أسابيع: «المملكة المتحدة البريطانية واحدة من الدول الأوروبية القليلة التي لا تحتاج لدفن تاريخها خلال القرن ال20». هذا ادعاء مذهل ومخيف، ويدل على أن لا نية حالياً لدى بريطانيا لمراجعة تلك الفترة في ضوء مختلف. ومع غياب ذلك النقاش العام، تبقى «الآثار المادية» على تلك العلاقة المعقّدة والمضطربة «شاهداً تاريخياً» ينبغي الحفاظ عليه. و «النادي الهندي» بهذا المعنى، ليس مطعماً تاريخياً فحسب، بل هو جزء من التاريخ وشاهد عليه.