هنا، حيث الأندلس على مرمى قصيدة، أو قُبلة، والعرب في سباتِ ماضٍ متوهج ومضارعٍ ناقص، يصير المدى المترامي في فضاء الأطلسي شرفةً على تاريخ عريق يتكثف بين بحر ومحيط، بين شرق وغرب، وتضادات كثيرة تصنع تنوعاً لا مثيل له، وتمازُجَ حضاراتٍ لا يُضاهى، جاعلاً الشخصية المغربية على كثير من الانفتاح والرحابة وقبول الآخر، في أيام تكاد تنقرض فيها، أو منها، هذه الصفات التي تمثل شرط انسانية انسان. من نافذة الطائرة تبدو السهول الشاسعة المحيطة بالدارالبيضاء بحراً من الخضرة يقابل زرقة الأطلسي، حتى يخال الناظر أن حواراً أزلياً يدور بين البحر والبر، بين ملوحة الأزرق وخصوبة ألأخضر، أشبه بمعزوفة ثنائية بين موسيقيين بارعيْن، فيما التربة الحمراء المائلة الى الليلك أو البنفسج، بحسب الضوء أو النور المتدفق من شمس لا تشيخ، تجعل المشهد بساطاً لا حدود له من التشكيل اللوني الطبيعي والنحت الخلاب الباهر للمبدع الأكبر الكامن في أعماق جمال موغل في فتنته وغواياته. مارسيل خليفة، رفيق الرحلة وشريك القلب المفتوح على جمالات وغوايات لا تنضب، يحدثني عن عبقرية المكان في مدن المغرب، التي عرفها وعرفته، وتفاعلت مع موسيقاه وصوته، وعن طيبة المغاربة وسعة أفقهم وعمق ثقافاتهم الضاربة في تربة التاريخ، لأكتشف فور مخاصرتنا للأطلسي من الدارالبيضاء الى الرباط، أن المشهد المترامي بين خضرة البر وزرقة البحر يفوق الوصف مهما امتلكت اللغة من بديع وبيان، اذ ثمة كاتب الكواكب والمجرات بلا حبر ولا صفحات. زيارتي الأولى الى المغرب تمر من بوابة فلسطين، نعبر فضاء المتوسط عبر إسطمبول، المستعيدةِ بعضاً من ماضي سلطنتها في سياسات المنطقة، وصولاً الى ضفاف الأطلسي، للمشاركة في مؤتمر دولي لنصرة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الاسرائيلي ومعتقلاته النازية، نقول شعراً ونغني ونذكّر بآلاف المنسيين خلف القضبان، علَّ الكلمات تسهم، ولو بأضعف الإيمان، في إيقاظ العرب والعالم من نومه أو من تجاهله المخزي لقضية من أكثر القضايا نُبلاً وإنسانية. كل العالم يعرف أو يسمع بجلعاد شاليط، جندي الاحتلال الاسرائيلي الأسير لدى حركة حماس، لكن أحداً لا يحفظ اسم أسير واحد من بين أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني يقبعون في زانزين العزل والقتل والذل والهوان، ولا من يَنْبِس في عالم مزدوج المعايير، متحجر القلب، متبلد الضمير، فيما مثقفو النخبة وأبراج الحداثة يأنفون من هذه القضايا، الجارحة لرهافة حداثتهم؟!! أو – وبعض الظن هنا ليس إثماً - لأنها لا تُطعِم ترجمةً وجوائز في محافل الغرب. بين الدارالبيضاءوالرباط تغدو الطريق أشبه بقناة بين بحرين: بحرالزرقة يساراً وبحر الخضرة يميناً، ويحار المتأمل أين ينقِّل ناظريه، بل كيف يصغي الى كونشرتو الماء متناغماً مع الهواء والحفيف، وأصداء التاريخ تتردد في فضاء الجغرافيا، حيث يغدو المدى الأخضر محاولة لترويض الأمواج الكامنة خلف هدوء ماكر يسبق الزمهرير والعواصف. بين زرقة وخضرة تتكون الشخصية المغربية، زرقة فيها من ليونة المياه وطرواتها وامتدادها نحو فضاءات وضفاف كثيرة، وخضرة متجذرة في تربة خصبة تحفظ في خلاياها كلَّ ما عرفته هذه البلاد من تعاقب حضارات وثقافات وإبداعات تتمازج وتتناغم وتتصارع في الذات المغربية لتنتج فرادة عربية أندلسية أطلسية أمازيغية لا يماثلها سواها. في المغرب تتحسر على المشرق الغارق في ظلام الصراعات المذهبية وشرور الفتن المُدبرة، وتمنِّي النفس بأن تنجو هذي البلاد، بلاد المشرق والمغرب، من مآرب الطامعين والعابثين، وأن يكون لأهلها وناسها حقهم في كرامة العيش والمواطَنة، ونصيبهم من الحرية والديموقراطية، وأن لا تظل الضفاف المُقابلة للمتوسط والأطلسي وسواهما حلماً يقضي في سبيله الشباب نحبهم في القبور المائية، فهذه الضفاف، ضفافنا الممتدة بين مائين، أو بين محيط وخليج، يستحق أهلها خيرها وثرواتها ويستحق شبابها رحيق الحرية بدلاً من حريق الاحتجاج. ثمة مدن كالإناث، يقع المرء في حبها من أول نظرة، أو من أول نسمة، وهكذا هي رباط الموحدين، فيها من حنان نون النسوة مثل ما فيها من سحر الفروسية الكامنة في الحجر الناطق على الأسوار والجدران والعتبات والأبواب التي تشبه فرقة من المنشدين القادمين على هودج التاريخ العابق بتوابل الانتصارات والانكسارات، بلحظات النشوة ودموع الخيبة، حتى تخال أن للزمن قلماً أو ريشة يخط فيهما على الحجر ملحمة البشر. في رحلة العودة من الرباط أقول لرفيق الرحلة والندى مارسيل خليفة: هذي بلاد تستحق الحب والحياة، فطيبة أهلها وناسها وحنينهم الى أندلس المشرق، الذي ينأى عنهم مرة بالتقصير وقلة التواصل ومرات بالانهماك القاتل في صراعات الغرائز والفتن، تناديك للرجوع الى ملتقى البحرين: بحر الخضرة وبحر الزرقة، أو بحر الجذور وبحر المدى. متسائلاً متى ندرك أن لا مشرق بلا مغرب، ولا مغرب بلا مشرق؟