معظم التصريحات والإشارات التي صدرت من واشنطن، أثناء الاستعداد لزيارة الرئيس دونالد ترامب إلى «الشرق الأوسط»، ثم خلال الزيارة، توحي بأن سيد البيت الأبيض لا يملك خطة محددة المعالم للتسوية الفلسطينية. لكن المؤكد هو أن ترامب أحسن استغلال لقاءاته الثنائية والجماعية مع عدد من الزعماء الشرق أوسطيين، في جمع معلومات تبدو ضرورية وفارقة في استطلاع الخطة المطلوبة. قبيل الزيارة، قيل إن التصور الأكثر إلحاحاً على العقل السياسي للرئيس الأميركي، في إطار سياسته الشرق أوسطية، يتعلق بمدى إمكانية بناء تحالف إقليمي يغلب عليه طابع التعاون والتنسيق الأمني تحت عنوان محاربة قوى التطرف والإرهاب. على أن يكون التحالف المأمول محشواً بالوشائج أو الترتيبات الاقتصادية، وأن يجرى إيجاد صيغة ما ذات طقوس وتجليات تحظى بالمقبولية عربياً وإسلامياً، لتشبيك إسرائيل ووصلها به بشكل من الأشكال. بصدور إعلان الرياض والتوضيحات التي تليت على حاشيته من الأطراف الموقعة عليه، يفترض أن تكون البنية الأساسية لهذا التصور أطلت عملياً وبدأت في الانتقال إلى حيز الواقع والحركة. لكن الموضوعة الخاصة بإشراك إسرائيل ما زالت قيد عمليات الاستطلاع والإعداد والابتداع. لا تساورنا الشكوك في أن الشراكة البازغة، التي تجتهد إدارة ترامب في تصنيعها بواشنطن، ستواجه في لحظة ما أو في طور ما من أطوارها بالعقدة الفلسطينية. سيكون السؤال الأكثر تحليقاً في الأفق العربي والإسلامي، على الصعيدين الرسمي في شكل ناعم والشعبي بحيثية أكثر صخباً هو: أيهما أولاً، تفكيك هذه العقدة القديمة أم الشراكة الاستراتيجية الجديدة؟! عندئذ، لن يسهل على واشنطن تكرار السيناريو الذي حدث قبل ربع قرن، الذي دفع بإرجاء التسوية الفلسطينية إلى ما بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي. بمعنى أن قطاعات واسعة من العرب قد لا تبتلع فكرة تأخير التسوية إلى ما بعد الانتصار في الحرب على الإرهاب ودحر التنظيمات المتطرفة. هذا ليس لأن أنصار فلسطين لن يلدغوا من الجحر ذاته لأكثر من مرة، وإنما أساساً لأن الحرب على الإرهاب تبدو مفهوماً مراوغاً وسائلاً ومفتوحاً على أفق تاريخي لا يمكن تحديد سقفه أو نهايته. فمن ذا الذي يملك إعلان مثل هذه النهاية؟ وما هي المحددات والمعطيات التي يصح عندها وضع السلاح جانباً ورفع علامة النصر في حرب كهذه؟ ثم أن التعاطي مع القضايا الشرق الأوسطية وفقاً لأولوية الأمني والاقتصادي والاستخباري على السياسي والحقوقي، سيحمل من وجهة نظر البعض شبهة التطبيق المعكوس لمبادرة السلام العربية الشهيرة، المعروضة منذ عام 2002، وهو الأمر الذي من المفترض أنه مرفوض بقرارات متتالية من القمم العربية. إلى ذلك، يخطئ مَن يعتقد بأن منح الأولوية والصدارة للتعاون الأمني والاقتصادي الإقليمي على التسوية السياسية الفلسطينية، هو فكرة جديدة أو من منتجات عهد ترامب. لقد سبق للفكرة ذاتها أن طرحت، مع بعض التصرف، تحت عنوان المفاوضات المتعددة الأطراف، التي انبثقت عن صيغة مؤتمر مدريد الأول للسلام في الشرق الأوسط عام 1991. ومن المعلوم أن مآلها كان الجمود والتواري بفعل فشل التسوية في المسار السياسي. عند تأمل تجارب الآخرين، نجد أن تسوية المنازعات أو تصفية الأجواء على الصعد السياسية، كانت مقدمة دوماً على صيغ التعاون الأمني أو الاقتصادي. ومن ذلك، أن الصيغة الاتحادية الأوروبية ذات الجذر الاقتصادي، لم تقم على سوقها إلا عقب هزيمة المعسكر النازي الفاشي في الحرب العالمية الثانية. كما أن صيغة هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي القائمة منذ عام 1975، جاءت عقب خمود لهيب الحرب الباردة بين الجبارين السوفياتي والأميركي فيما عرف وقتذاك بسياسة الوفاق الدولي. علاوة على عِبرة هذه السوابق، هناك ما يبرر الاعتقاد بأن الجرح السياسي الفلسطيني عابر للجغرافيا، وموصول بمصالح مادية ورؤى دينية وروحية لعدد كبير من شعوب الأطراف المدعوة للشراكة، التي تضمرها الولاياتالمتحدة بالمعنيين الأمني والاقتصادي. بل يجوز القول إن هذا الجرح يمثل موضوعاً أثيراً لدى قوى التطرف والإرهاب، التي تستخدمه وتتوسل به لاستقطاب الأتباع والمريدين. وهكذا، فإن مَن أراد قطع المدد عن هذه القوى وإحباط خطابها الثقافي التعبوي الشعبي، قد يتعين عليه الاجتهاد عاجلاً في معالجة القضية الفلسطينية، فإن عزَّ منح الأولوية لهذه الخطوة، وهذا أمر واضح في الخطاب الأميركي الراهن، فقد يكون من الأوفق والأنسب الحرص على اجتراحها بالتوازي مع خطوات الشراكة المطروحة الأخرى. * كاتب فلسطيني