سيظل الجدل طويلاً حول الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، وفي الأغلب لن نعرف الحقيقة الكاملة أبداً. ويفتح ذلك الباب أمام الإشاعات والتكهنات ونظريات المؤامرة والقصص المغرضة التي يروّجها كل طرف لإدانة خصومه. ولأنه في هذه الظروف لا يمكن أخذ التصريحات الرسمية على محمل الصدق، وتصعب تصفية أنصاف الحقائق التي تسرَّب لغرض ما، فلا نريد الدخول في ذلك الجدل. لكن هذا لا يؤثر في قراءة من زاوية مختلفة، خصوصاً أن «محاولة انقلاب عسكري» في النصف الثاني من العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أمر يستحق في حد ذاته التوقف عنده بغض النظر عن نجاحه أو فشله، من قام به أو من دعمه... ثمة حقائق قد لا تتحمل الجدل الكثير: عسكريون أتراك حاولوا إسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية. فشلت المحاولة ويقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحملة تطهير للجيش والقضاء، طارداً الآلاف من الخدمة ومقدماً المئات للمحاكمة وساعياً لإعادة عقوبة الإعدام للتخلص من معارضيه نهائياً. والنتيجة الأساسية هي أن أردوغان أصبح منذ ليلة الانقلاب الفاشل يمارس سلطات أوسع من سلطات الرئاسة وفق النظام التركي الذي يريد تغييره من برلماني إلى رئاسي، وهكذا لن يكون التغيير لاحقاً سوى إقرار واقع عملي بالفعل. من المهم أيضاً الرجوع إلى الوراء قليلاً للتذكير بأن أردوغان لم يثق بجيشه يوماً، ولديه ما يبرر ذلك لأنه يعرف موقف الجيش من توجهاته. لذا عمل منذ بداية حكمه على إبدال سند السلطة من المؤسسة العسكرية إلى قاعدة شعبية واسعة تضمن لحزبه غالبية في أي انتخابات، مستخدماً الشعارات الدينية لكسب تأييد الكتل التصويتية في المناطق الريفية وسلاح «البيزنس» مع الطبقة الوسطى في المناطق الحضرية. وفي تلك الأثناء، ومنذ توليه رئاسة الحكومة عام 2002، وهو يعمل حثيثاً على إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية أو إضعافها إن لم يتمكن من وضع عناصر من «أهله وعشيرته» في مفاصلها القيادية. والواقع أن ذلك لم يقتصر على الجيش، بل طال كل المؤسسات والأجهزة. وازدادت حدة ذلك في السنوات الأخيرة بتكرار عزل قادة عسكريين وأمنيين، وحتى استخباراتيين، كلما سمع منهم أي تعليق على سياساته. وتحديداً أكثر من طرده لكل من حذره في بداية انخراط تركيا في الحرب في سورية من أن علاقة تركيا بالإرهابيين تمثل خطراً على الأمن القومي للبلاد ويمكن أن تنقلب على تركيا في ما بعد. كذلك فعل مع القضاء حين تم الكشف عن فضائح فساد طالت مقربين منه. الخلاصة، أن أردوغان ورغم القاعدة الشعبية الكبيرة لحزبه، لا يأمن بعض مؤسسات الدولة التركية وفي مقدمها الجيش. ومن بين ما سيق في الجدل اللامنتهي حول الانقلاب الفاشل أن حركة تعديلات كانت ستشمل تسريح عدد كبير من ضباط الجيش. لكن ذلك كله يبقى ضمن التكهنات والتخمينات التي قد لا نعرف مدى صحتها أبداً. يبقى أمر مهم جداً، وأظنه الملمح الأساسي في كل تلك الأحداث: أردوغان يتبنى خط تنظيم «الإخوان المسلمين»، وجمع لديه عناصرهم من دول المنطقة التي لفظتهم اتقاء لشرهم. واذا كان حليفه السابق وخصمه الحالي فتح الله غولن، المقيم في منفى اختياري في أميركي، من داعمي «القاعدة» ومؤسسي «جبهة النصرة» في سورية، فإن أردوغان من داعمي «الإخوان» ومؤسسي «داعش». في النهاية أصبحت تركيا الملاذ الرئيس ل «الإخوان» (وجماعات الإرهاب المنبثقة منهم) وداعمهم في بقية دول المنطقة من سورية إلى ليبيا. وطبيعي ألا يستقيم ذلك مع وجود جيش قوي في أي من الدول التي ينشط فيها «الإخوان» لأسباب عدة نحاول الإشارة إليها كالآتي: - منذ أوائل الدول المؤسسية، في مصر الفرعونية قبل آلاف السنين، وحين كان الفرعون حاكماً وإلهاً في الوقت ذاته كان يستمد قوة نظامه من طرفين: المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية. وتظهر رسوم الفراعنة الفرعون وعلى يمينه كبير الكهنة وعلى يساره قائد الجند. وطبيعي إذا مال الفرعون ناحية أي من الطرفين سيكون على حساب الآخر. إذا سحبنا ذلك على ما هو حديث، نجد أن «الإخوان» منذ تأسيسهم في مصر عينهم على الجيش والأمن، باستمالتهما أو إضعافهما. ولعل ذلك ما جعل ثورة الضباط في مصر عام 1952 تتخلص بسرعة من «الإخوان» درءاً لخطرهم. أما في ما هو معاصر، فلننظر في أخبار السنوات الأخيرة لنرى كيف أن جماعات الإرهابيين تستهدف الجيوش بالأساس، من مصر وليبيا وتونس والجزائر إلى سورية والعراق وغيرها. - في إطار الصراع على السلطة والثروة، هناك تعارض جذري بين «الإخوان» والجيش يستند إلى ملمح مشترك لدى الجانبين: الطاعة وتنفيذ الأوامر دون تفكير كبير في النتائج. وإذا كانت الطاعة لدى الجيش جزءاً من النظام الذي يضمن كفاءة الإنجاز، فهي في النهاية مبدأ إنساني (أرضي وليس سماوي) يلتزمه من ينخرط في المؤسسة العسكرية. أما لدى «الإخوان» فالطاعة مغلفة بستار ديني (تكاد تكون سماوية وليست أرضية) ضماناً لعدم كشف انتهازية القادة وسعيهم لمصالحهم الدنيوية الأنانية وليس «إعلاء كلمة الله في الأرض»، كما يدّعون. لذا لا يمكن أن يكون هناك جيش و «إخوان» في مكان واحد، هذا ما يحدث في تركيا الآن وقبلها في غيرها وبعدها يعلم الله أين. * صحافي مصري