تستعين الشركات الكبرى في عالم الرياضة بالعلوم الدقيقة وتقنياتها، بهدف صنع أفضل كرة للمونديال، وقد بات تغييرها مع كل دورة طقساً ثابتاً في هذه المسابقة الدولية. وفي جنوب أفريقيا، بدا ان هذا الأمر وصل إلى منزلق صعب. إذ اشتكى كثير من المحترفين من الكُرة المخصصة للدورة 19 من كأس العالم في كرة القدم. ووجهوا انتقادات الى هذه الكرة، مثل قولهم إنها تغيّر وجهتها بطريقة غير منتظرة، ما يربك اللاعبين، خصوصاً حراس المرمى. وما ان أطلق الحكام الصفرات الأولى لبدء مباريات المونديال، حتى وُجهّت أصابع الاتهام إلى هذه الكرة المُلوّنة بأنها المسؤولة عن الأهداف الأولى التي هزّت شباك حارسي المرمى في منتخبي إنكلترا والجزائر. وراج في أوساط المُعلقين على مجريات اللعبة القول إن ال «فيفا» جاءت بهذه الكُرة بهدف تعزيز الأداء الهجومي للفرق، مُلاحظين وفرة في الأهداف في مطالع المونديال الافريقي. والمعلوم أن ال «فيفا» لجأت سابقاً إلى إدخال تغييرات على قوانين اللعبة بهدف تعزيز الطابع الهجومي للكرة، مثل تبديل وصف حال التسلّل ومنع حارس المرمى من تسلم الكرة التي تعاد إليه من أرجل زملائه قصداً. ولا يتناقض هذا المسعى، مع وجود جانب تسويقي مهم يتمثّل في إطلاق عمليات تجارية واسعة، مع كل تغيير في الكرة المخصصة لهذه اللعبة. «أن نحتفل»: جابولاني أُطلق على الكرة المخصصة لمونديال جنوب افريقيا اسم «جابولاني» Jabulani التي تعني «أن نحتفل» في لغة قبيلة «زولو»، وهي إحدى أهم اللغات في القارة السمراء، خصوصاً جنوب افريقيا. وأصبح صحافيو الرياضة خفيفي الظل، فلا ينعتون الكرة إلا بلفظة «جابولاني»، التي دخلت في عداد رموز المونديال الافريقي وأيقوناته، على غرار ال «فوفوزيلا» vuvuzela، وهو المزمار العجيب المستعمل بكثافة في ملاعب جنوب افريقيا لتشجيع اللاعبين وإثارة حماستهم. ولم تنج «فوفوزيلا» من النقد المُرّ، خصوصاً ان كثيراً من المنتخبات جاء من قارات لا تعرف هذا المزمار وطنينه الحاد. واعتبرها البعض ضوضاء لا تطاق. وأدّت ال «فوفوزيلا» إلى تدخّل رئيس «الاتحاد الدولي لكرة القدم»، الذي اعتبرها جزءاً من تراث البلد المضيف، ولا يمكن منعها بأي حال من الأحوال. صنعت شركة أديداس» المشهورة كرة «جابولاني» المعتمدة رسمياً لمونديال 2010. وسوّقتها بمناسبة التظاهرة العالمية. وتتضمن «جابولاني» أحد عشر لوناً، في إشارة إلى عدد لاعبي فريق كرة القدم، وإلى اللغات المستعملة في جنوب افريقيا. كما تعتبر «جابولاني» الحادية عشرة ضمن الكرات الرسمية لكؤوس العالم. وكانت آخر كرة صممتها «أديداس» للمونديال هي «تيم غيست» Teamgeist التي ظهرت في مونديال ألمانيا 2006. وسجّلت «تيم غيست» سبقاً في أنها خفضت عدد القطع التي تتكوّن منها الكرة الى 12، كما خلت من الخيوط لأن أجزاءها المُكوّنة لُحمت حرارياً. معلوم ان تقليد صنع كرة مصمّمة خصيصاً للمونديال، استهلته كرة «تلستار» Telstar الشهيرة التي لُعبت في مونديال المكسيك 1970، وتكوّنت من 32 قطعة باللونين الأبيض والأسود، جُمِعت الى بعضها بعضاً بالخيوط. وقد وضعت الخصائص التقنية لكرة «جابولاني» في «معهد تكنولوجيا الرياضة» في إنكلترا. وتتلخص هذه الخصائص التقنية في زيادة صفات التحكّم والتوازن والدقة والثبات، بالمقارنة مع الكرات السابقة، على عكس ما اشتكى منه مستعملو الكرة حتى الآن! ووصف مهندسو ذلك المعهد «جابولاني» بأنها كرة تتأقلم مع الظروف المناخية المتنوّعة، مثل الرطوبة العالية، خصوصاً في جنوب افريقيا التي تقع في الجهة الجنوبية للكرة الأرضية. يذكر ان سطحها لا يمتص الماء، ما يعني ان الرطوبة المرتفعة لا تؤدي الى زيادة وزن الكرة. وبحسب موقع ال «فيفا»، فإن أحدى أهم خصائص هذه الكرة أن سطحها الخارجي يتكوّن من ثمانية أجزاء ثلاثية الأبعاد، جمعت إلى بعضها بعضاً بواسطة اللحام بالكهرباء، ومن دون استعمال الخيوط. والمعلوم ان الكرات السابقة تكوّنت من 32 جزءاً تخاط بعضها إلى بعض. وهكذا تفتخر شركة «أديداس» بأنها صنعت الكرة الأكثر تلاؤماً مع لعبة الأرجل، وبأنها استطاعت ان تزيد المساحة القابلة للركل على سطح الكرة بنسبة 70 في المئة، بفضل تخفيض عدد الفواصل التي ترسم الحدود بين أجزائها، إضافة الى الاستغناء عن الخيطان. وفي المقابل، تقول «أديداس» إن الفواصل بين الأجزاء الثمانية المُكوّنة ل «جابولاني» تتميّز بالطول، ما يعطي مجالاً لمرور الهواء كتيارات فيها. وبحسب الشركة، يؤدي ذلك الى مزيد من الثبات في حركة الكرة في الهواء، ما تُطلق عليه الشركة مصطلح «إيروغروف» Aero Groove. ويسمح قانون ال «فيفا» بتغير وزن الكرة حتّى حدود عشرة في المئة، فيما لا يتغيّر وزن «جابولاني» إلا بمقدار غرامين في الحالات الشديدة الرطوبة. وجرى تصنيع الكرة في معامل صينية، وأُنتِجَتْ موادها في الهند وتايوان. وقد وقع جدال كبير حول كرة «جابولاني»، خصوصاً أنها استُعمِلت في بعض مسابقات الدوري في كرة القدم الاوروبية، مثل ألمانيا، فأعطت نتائج إيجابية. وكذلك كانت الحال في الولاياتالمتحدة والأرجنتين. في المقابل، لم تستطع أندية الدوري الانكليزي اللعب بكرة «جابولاني» نظراً الى ارتباطها قانونياً بالكرات التي تصنعها شركة «نايك». واعتبر بعضهم هذا الأمر محاباة لفرق دون أخرى، وبالأحرى فوزاً مالياً لشركة على شركة اخرى، ما يظهر بُعداً آخر في عالم المال والمصالح الذي يُمسك بكرة القدم. رقصة الانزلاق والسرعة تتميز كرة «جابولاني» بأن محيطها يزيد قليلاً عن 69 سنتيمتراً، ولا يتغيّر إلا بمقدار 0.2 سنتيمتر، في الأحوال الجوية المختلفة. ولا يزيد الفارق بين قياسات قطرها من اتجاهات مختلفة عن واحد في المئة. وتزن «جابولاني» 440 غراماً. وإذا تركت لمدة 3 أيام، فإنها لا تخسر سوى 10 في المئة مما تحتويه من الهواء. وتُطبّق ال «فيفا» اختباراً وحيداً على الكرات، يقضي برميها على سطح فولاذ من ارتفاع مترين، عشر مرات متوالية. وتُجيز ال «فيفا» اللعب بالكرات اذ لا يتجاوز الفارق بين أدنى وأعلى ارتداد العشرة سنتيمترات. وفي حال «جابولاني»، لا يتجاوز هذا الفارق 6 سنتيمترات. لعل أحد أهم الانتقادات العلمية التي وُجّهت إلى «جابولاني» ما لاحظه بعض العلماء الاستراليين، من أنها تنطلق بسرعة أكثر من الكرات السابقة، كما أن سطحها الخشن يجعلها تغيّر مسارها بطريقة يصعب توقّعها. ورأى هؤلاء العلماء ان هذه الصفات تُعقّد مهمة حراس المرمى، خصوصاً عندما يسعون لاستباق حركة اللاعبين. والمعلوم أن استباق حارس المرمى لحركة اللاعب أمر مهم في عدد من الأوضاع، خصوصاً عند التصدي لركلات الجزاء والضربات الحُرّة المباشرة. في المقابل، أشار خبراء آخرون الى امتلاك «جابولاني» ميزات عدّة. فمثلاً، تضمن خشونة السطح الخارجي للكرة ألا تنزلق بسرعة من ايدي الحراس، كما تُسهّل التلاعب بها بأطراف الأرجل، إذ تسهل المحافظة على تلامسها مع الحذاء الرياضي. ولم يمنع ذلك لاعباً من وزن روبينهو، المهاجم البرازيلي المعروف، من القول إن من صنع «جابولاني» لا يلعب كرة القدم! إنها «الخفة التي لا تحتمل» لكرة كأس العالم، بالاقتباس من عنوان رواية للكاتب التشيكي المشهور ميلان كونديرا: «خفة الكائن التي لا تحتمل». مصطفى العروي