السعودية والأمريكية    «الأقنعة السوداء»    العيسى والحسني يحتفلان بزواج أدهم    احذر أن ينكسر قلبك    5 مخاطر صحية لمكملات البروتين    تقنية تخترق أفكار الناس وتكشفها بدقة عالية !    إلتقاء سفيرة خادم الحرمين الشريفين بطلبة المنتخب السعودي في آيسف.    فتياتنا من ذهب    حلول سعودية في قمة التحديات    تضخم البروستات.. من أهم أسباب كثرة التبول    بريد القراء    الرائد يتغلب على الوحدة في الوقت القاتل ويبتعد عن شبح الهبوط    رئيس موريتانيا يزور المسجد النبوي    حراك شامل    ابنة الأحساء.. حولت الرفض إلى فرص عالمية    ولي العهد يلتقي الأمين العام للأمم المتحدة وملك الأردن والرئيس السوري    هتان السيف.. تكتب التاريخ في الفنون القتالية    الاستشارة النفسية عن بعد لا تناسب جميع الحالات    الإطاحة بوافد مصري بتأشيرة زيارة لترويجه حملة حج وهمية وادعاء توفير سكن    مدير عام مكتب سمو أمير منطقة عسير ينال الدكتوراة    مستقبل الحقبة الخضراء    تركي بن طلال يرعى حفل تخريج 11 ألف طالب وطالبة من جامعة الملك خالد    الشريك الأدبي وتعزيز الهوية    التعليم في المملكة.. اختصار الزمن    صالح بن غصون.. العِلم والتواضع        الدراسة في زمن الحرب    76 مليون نازح في نهاية 2023    فصّل ملابسك وأنت في بيتك    WhatsApp يحصل على مظهر مشرق    فوائد صحية للفلفل الأسود    ايش هذه «اللكاعه» ؟!    خطر الوجود الغربي    العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك    حق الدول في استخدام الفضاء الخارجي    كلنا مستهدفون    أثقل الناس    تحولات التعليم.. ما الذي يتطلب الأمر فعله ؟    لماذا يجب تجريم خطاب كراهية النساء ؟    الاتحاد يتعثر من جديد بتعادل أمام الخليج    المسابقات تعدل توقيت انطلاق عدد من مباريات دوري روشن    بتوجيه ولي العهد.. مراعاة أوقات الصلوات في جدولة المباريات    البنيان يشارك طلاب ثانوية الفيصل يومًا دراسيًا    رئاسة السعودية للقمة العربية 32.. قرارات حاسمة لحل قضايا الأمة ودعم السلام    أمير القصيم يرفع «عقاله» للخريجين ويسلم «بشت» التخرج لذوي طالب متوفى    النفط يرتفع والذهب يلمع    أمير تبوك يرعى حفل جامعة فهد بن سلطان    بمشاركة السعودية.. «الحياد الصفري للمنتجين»: ملتزمون بالتحول العادل في الطاقة    أمطار على أجزاء من 6 مناطق    صفُّ الواهمين    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    سقيا الحاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    أمين العسيري يحتفل بزفاف نجله عبد المجيد    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مالك ولبنى ... للمؤلف زارع حسين الشريف
نشر في أملج يوم 26 - 03 - 2012


بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على خير الأنام والمرسلين أما بعد
يسرني أن أقدم للقارئ الكريم هذه ا لقصةالمستوحاه من رواية وقعت أحداثها أثناء حكم الأنباط قبل ميلاد المسيح عليه السلام مفادها[المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام]
(( أن الحارثة ابن ملك الأنباط حلم أن والده سينشئ مدينة على ارض بيضاء فقص حارثه حلمه على أبيه عبادة, فأخذ يفتش عن هذا الموقع ليبني هذه المدينة التي حلم بها على هذه الأرض)) وقد دمجتُ هذه الرواية بمعلم من معالم مد ينة الحوراء التاريخية (مدينة أملج حاليا) ألا وهي جزيرة جبل لبنى, مستفيدا من الاسم في بناء دراما هذه القصة الخيالية المستوحاة من أحداث وقعت في العصور الغابرة * أسأل الله التوفيق والسداد
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المؤلف/ زارع بن حسين مرعي الشريف



يحكى أن:*الحارثة ابن ملك الأنباط حلم أن والده
ينشئ مدينة علىارض بيضاء*
فقص حارثة حلمه هذا على أبيه عبادة ملك الأنباط.
فقا ل له الملك هل عاودك حلمك هذا؟
فرد عليه الحارثة نعم ياأبتي. ثلاث مرات متتا لية
فوضع الملك كفه الأيسر على جبهته واخذ يفكر بعمق
وتأمل ,
متسائلا بصمت ,أهذه رؤيا أم حلم؟!
ثم ألتفت إلى الحارثة قائلا :" وهو يحرك رأسه إلى
أسفل وأعلى عدة مرات متكررة ببطء "
حسنا يا بني سأ نظر في الأمر .
وبعد عدة أيام طلب الملك عبادة أبنه الحارثة وقال له:
خذ ما تحتاجه من رجال وعتا د
وابحث عن هذه الأرض البيضاء غدا مع شروق الشمس
عسى أن تكون رؤياك صادقة يا بني.
فقام الحارثة بما أمره به والده الملك.
وجهز كل ما يحتاجه لهذه الرحلة التي لايعلم عن مدتها
ولا عن جهتها وناحيتها شيئا.
ولم تغمض لهما جفن في تلك الليلة.
فالملك قلق على ابنه البكر في هذه الرحلة وما قد يلاقيه
من صعاب ومهالك. وسط الأحداث الدائرة من حروب
ومنا وشات حول حدودهم الشمالية والشرقية بين
البطالمة والفرس
من جهة وأحداث أخرى في جنوب الجزيرة
العربية بين الأحباش والعرب
من ناحية وبينهم وبين اللحيان
على حدودهم الجنوبية من ناحية أخرى,
والحارثة ينظر يمينا وشمالا لا يدري أين يتجه غدا
وأين تكون هذه الأرض البيضاء التي رآها في منامه
وعندما طلع الفجر ذهب الحارثة إلى أبيه يودعه
فعرف الحارثة بحسه أن الملك لم ينم ليلته تلك .
الحارثة : لِما هذا القلق الذي أراه في عينيك؟!
إن شئت أبقى بقيت.
فرد عليه الملك: قائلا , لاعليك يابني ,رافقتك السلامة.
الحارثة: هل لي أن استأذنك ياأبتي بمرافقة إبني
مالك في هذه الرحلة.؟
فرد عليه الملك ." وهو ينظر إلى مالك الشاب اليافع الذي
لم يتجاوز عمره ثمانية عشر ربيعا"
كنت أتمنى أن يبقى عندي لأراك فيه غير أنني أراه
يطلبني السماح لمرافقتك في هذه الرحلة الشاقة عليكما .
فرد عليه الحارثة بكل أدب ووقار:
الأمر لك سيدي.
فنظر مالك إلى جده الملك نظرة توسل واستعطاف
ليسمح له ,
فقال عبادة: كان الله معكما, ثم قام الملك وأقترب من الحارثة
قائلا : أوصيك أن تكون حريصا يا بني اشد الحرص في سفرك هذا, فلا تطئوا د يارا ليس بيننا وبين أهلها
حلف وعهد ,وتجنبوا د يار الفتن والحروب
ولا تغدروا ولا تسلكوا الصحاري فإنها مهلكة.
فأجاب الحارثة لك السمع والطاعة.
فقام الحارثة وابنه مالك يودعا الملك عبادة ثم تبعهما
المرافقون لهما في هذه الرحلة حراسا وجنودا لايتجاوز
عددهم الخمسين,و خمسة عشر من العمال المهرة في
البناء والعمارة والنحت, لعله يجد هذه الأرض
ويبني عليها المدينة التي حلِم بها بطراز من فنون العمارة
النبطية التي تشتهر بها مملكته.
وهموا جميعا إلى خيولهم وجمالهم وبغالهم بينما ذهب
مالك مهرولا ليودع من تقع الجنة تحت أقدامها نعم أمه
التي حملته في بطنها وهنا على وهن,
والحارثة يراقبه من بعد مبتسما وراضيا عنه
كل الرضا ويحدث نفسه بصوت خافت يغلب عليه الحزن
والأسى" رحمك الله ياأماه . لقد فقدتك في الصغر
ولازلتُ افتقدك حتى اليوم
يتأوه ثم يقول الأم لاغنى عنها صغيرا كان أم كبيرا.
ثم يلحق بإ بنه ليودع رفيقة عمره زوجته الغالية
أم مالك وتدعى (هديه)
وبعد وداعها ذهبا إلى القافلة (الركب) وهديه تنظر
إليهما ودموع الوداع والفراق تنهمر على وجنتيها كالسيل.
وبدأت رحلة البحث عن المجهول.في أول يوم من أيام
الشهر القمري وعندما ابتعدوا عن البتراء المدينة الجميلة بفنون العمارة والنحت بمسافة بسيطة,
التفت الحارثة ليودع هذه المدينة التي نشاء وترعرع وعاش بها,
كيف لا وهي تُعد من أرقى المدن وأغناها في ذلك
العصر, ثم وقف الحارثة مخاطبا الركب قائلا :
سنتجه نحو الجنوب .
فردوا عليه بصوت رجل واحد * لك السمع والطاعة.
ومرت عليهم الأيام والليالي وهم يسيرون بحثا عن المجهول .
وأسئلة مالك لأبيه عن كل مايشاهده في هذه الرحلة
لاتنقطع فتزداد المعرفة وتهون على الركب مشا ق
الطريق لايساورهم قلق ولايسيطرعليهم خوف
فالزاد والماء والدواء متوفر مع الركب( القافلة)
وكلاب الصيد (السلوقي) لاتغفل عن أي فريسة
تقع تحت ناظرها,
وفيما هم سائرون في طريقهم اقترب مالك من
والده ,"بعد أن سمع من الرجال عن أهوال هذا البحر" قائلا له : إنني لم أر البحر من قبل!
ما أسم هذا البحر ياأبتي؟
فرد عليه قائلا : انه بحر القلزم.[ البحر الأحمر ]
فعاد مالك يسأل أباه قائلا
ولماذا أطلق عليه هذا الاسم؟
الحارثة : هناك مدينة تسمى القلزم عند نهايته في
الشمال ناحية مصر, فسمي باسمها.[ السويس حاليا]
واخذ الحارثة يخبر ابنه عن أهوال هذا البحر والأخطار
التي تلاقيها المراكب التي تجلب لهم العطور والتوابل
والأقمشة من الهند والحبشة واليمن وبلاد الإغريق
والرومان. من كثرة صخوره وشعابه المرجا نية .
وأثناء حديثهما هذا صمت الحارثة برهة ثم قال :
سنبيتن ليلتنا هنا .
فقد حل بنا التعب والإرهاق ونحتاج إلى الزاد فإننا
مقبلون على ارض واسعة شحيحة المياه.
مالك: وكيف علمت أنها شحيحة المياه ياأبتي؟! الحارثة :
ألا ترى معي !؟ انظر أمامك إلى هذا الخبت الواسع
أتشاهد أشجارا!؟
مالك : لا لا أشاهد أشجارا كتلك الأشجار الكثيفة والمتنوعة التي كنا نشاهدها من قبل
لا أرا إلا بحرا عن اليمين وجبالا عن الشمال تبتعد
تارتا وتقترب ثارتا أخرى وبينهما هذه الأرض
الجرداء!.
الحارثة:وجود الأشجار والنباتات المخضرة
في أي ارض يابني د ليلا على وجود الماء فيها
أوعليها!.
وهنا تد خل أحد المرافقين في الرحلة وكان قريبا
ويسمع الحديث الدائر بين الحارثة وأبنه .
يقال له هلال قائلا:تسمى هذا الأرض أكرا!
وهي شحيحة المياه خاصة في فصل الصيف الذي
لاتسقط فيه الأمطار على هذه الديار في الغا لب.
وكا نت الشمس على وشك الغروب فوقف الركب
وربطوا خيولهم وأناخوا جمالهم وهمً الجميع كل في
عمله ومهمته . وبعد أن تنا ولوا بعض من الزاد والماء
تسامروا بالقصص والحكايات والأشعار ثم
سعوا إلى النوم .
وعند الفجر استيقظ الجميع ليكملوا مسيرتهم جنوبا
بعد أن تنا ولوا من الزاد ما يساعدهم على تحمل مشا ق
سفرهم هذا,
وعندما اقتربوا من وادي كبير تكثر فيه اشجارالحمض
والغضا والعوسج لم يتردد مالك في سؤال أبيه عن
اسم هذا الوادي
فقال له الحارثة: هذا وادي إضم . [ الحمض]
وقد سكنه في غابر السنين العماليق ثم جرهم .
وانشدا قائلا :
وجرهم دمنوا تهامة في سالف
الدهر فسالت بجمعهم إضم
فقال مالك متسائلا :لقد غرقوا , أهذا ما تعنيه ياأبتي؟
فرد عليه قائلا نعم نعم يا بني لقد أخذهم السيل.
وكان الدرب يقترب بهم من شاطئ البحر رويدا رويدا.
وبينما هم كذلك شاهد مالك قصرا على حافة الوادي
ناحية البحر,
فأخبر والده عما رآه .
فقال الحارثة: لم اسمع من قبل أن في هذه الديار قصورا.
فأمرا الركب با لتوجه إلى ذلك القصر لمشاهدته والعودة
مرة أخرى إلى دربهم الذي يتوقع أن يوصلهم إلى الأرض
البيضاء التي يبحثون عنها.
وعندما وصلوا إلى القصر لم يصدق الحارثة
ما يشاهده من فن معماري من طراز فريد فاق فن
النحت والعمارة في مملكة الأنباط ومد نها.
فأعمدة هذا القصر من المرو وأسواره من أحجار مقطعة
بحرفية ودقة متناهية,
فقال الحارثة :أظن أن هذا البناء مراكز من مراكز البطالمة
والرومان .
فسائله مالك وهل وصل الرومان إلى هذه الديار ؟
الحارثة : نعم يا بني إن سفنهم التجارية المتجه من
وإلى الصين والهند واليمن تعبر هذا البحر وبحر
الروم مرورا بمصر عن طريق قناة حفرت تصل بين هذا
البحر ونهر النيل وربما كان هذا البناء مركزا من مراكز الحماية التي قاموا ببنائها لحماية سفنهم التجارية من قراصنة البحر .
وهنا تدخل هلال,قائلا :
نعم سيدي إن هذا القصر بناه البطالمة منذ زمن
وأسموه كصل كريم وسموه من سكن هذه الديار قديما
القصير وأراه اليوم مهجورا.
فقال الحارثة : وكيف عرفت ذلك؟
فرد هلال قائلا:اخبرني أبي عندما مررنا من هنا
نبحث عن إبلٍ فقدناها
وقد رأيت بأم عيني حراسا وعساكر من البطالمة
يعيشون في هذا القصر وهم يجلبون البران والمرو
والفضة من قرية محيفير في وادي إضم إلى هذا
القصر ثم يرسلونها إلى بلادهم
ومنذ متى كان هذا ؟
فأجاب الرجل منذ ثلاثين عاما سيدي
وكم كان عمرك آنذاك؟
هلال: خمسة عشر عاما,
وكيف عرف أباك أن هذا القصر للبطالمة ؟
كان أبي يعمل في الشام خشابا وعرف الكثير عنهم
وعن تجارتهم وأساطيلهم البحرية.
فسكت الحارثة برهة ثم قال :
وهل تعلمت من أباك شيئا؟
نعم سيدي تعلمت منه الكثير ." الأمانة والكرم
والصدق والفروسية والإقدام .
الحارثة:*لو لم يتعلم الإنسان في حياته إلا الامانة والصدق لكفاه ,
وهل تعلمت القراءة والكتابة ؟
هلال :نعم وقرأت معظم كتبهم ومخطوطاتهم.
الحارثة: كتب الرومان ومخطوطاتهم بلغتهم أهذا ماتعنيه؟
نعم سيدي,
فتمتم الحارثة بكلام غير مسموع ثم قال:
حسناًََ.قالها وهو ينظر للرجل بإعجاب وارتياح
:أختر أثنين من رجا لنا يقوما بحراسة هذا القصر
حتى نعود إليهما بعد انتهاء مهمتنا التي جئنا من
اجلها. وامنوا لهما ما يكفيهما
من زاد وماء وركب وسهام.وسلوقي للصيد.
فنفذ هلال ما أمره به الحارثة.
ثم وا صل البقية دربهم يبحثون عن الأرض البيضاء
آملين أن يجدونها ويتحقق الحلم.
وبينما هم في طريقهم إلى المجهول وقد انتصف النهار
وقست عليهم الشمس بحرارتها نادا رجلا من الركب
قائلا :- لقد نفذ الماء!ّ
فتمهل الركب رويدا رويدا حتى أصابه السكون ,
والوجوه واجمة من الهلع والخوف والدهشة في آن .
و يتهامسون فيما بينهم متسائلين ماذا نفعل؟!
فنظر الحارثة إلى ذلك الرجل قائلا:
ويحك , كيف فقد نا الماء,وأردف قائلا ألم يكن معنا
من الماء ما يكفينا لثلاثة أيام أخرى ؟
فرد الرجل : نعم كان معنا ماء يكفي لثلاثة أيام أخرى
غير أن البعير الذي يحمل ما تبقى من الماء أقترب
من شجرة يابسة ,غصونها كالرماح شقت هذه الغصون
قرب الماء التي يحملها .
الحارثة : أ لم تستطع إدراك ماتبقى من الماء ؟
الرجل : انشغلنا ونحن نتابع مطاردة كلاب الصيد لهذا الظبي الذي صد ناه, وكان البعير في آخر الركب
ولم الحق به إلا بعد أن فقد نا كل مامعنا من الماء
أقدم لك سيدي عذري وأسفي.
صمت الحارثة قليلا ثم قال : وهو ينظر يمينا وشمالا ,
لاعليك ,
أكملوا السير ستفرج بحق رب إبراهيم,ثم يحدث نفسه
وهو ينظر إلى سلسلة الجبال المحاذية لهم قائلا: لاتخلو.
هذا الجبال وشعابها من الماء .
وإثناء سيرهم هذا, وإذا بالقرب منهم بئر عميق مطوي
بالحجر الأبيض فقال الحارثة قفوا سننظر في أمر هذا البئر
عسى أن نجد به ماء فنظر الحارثة فلم يرى به ماء
فرمى به حجرا فلم يسمع للماء صوتا ثم أردف قائلا
عجيب أمر هذا البئر المحفور في هذا الخبت فبنائه دقة
في العمارة والبناء وعميق جدا ولا ماء فيه,
من يستطيع منكم النزول لاستكشافه ؟
فقال سادم (احد الجنود) أنا استطيع النزول سيدي ,
أأتوني بحبل فاحضر له احد الحراس حبلا مصنوعا
من ليف النخيل والكتان
وربطوا به سادم وانزلوه في البئر وما إن وصل إلى
القاع حتى اخبرهم أن تربة قاع البئر ندية " دليلا
على أن الماء قريب من القاع ويمكن حفره للوصول
إلى الماء " وفجأة صرخ سادم قائلا أطلعوني فقد
اختنقت ,فأسرعوا بإخراجه إلى فم البئر ,وإذا به ميت لانفس ولا حراك ,
فقال احدهم إن الجن عُمار البئر قتلتهُ وقال آخر
ربما داب ساكن في البئر قتله وقال رجل ثالث
قتلته رائحة نافذة فرد عليهم هلال قائلا:كفا كم قولا
لقد حان اجله , تعددت الأسباب والموت واحد
وإكرام الميت دفنه .
فقاموا بدفنه بالقرب من البئر والحزن يخيم على
الجميع والحارثة يحدث نفسه وهو ينظر إلى القبر
بحزن واسى "لقد كنت شجاعا ياسادم الوداع .
ثم واصلوا سيرهم وفجأة صرخ مالك قائلا:
هناك ماء ياأبتي.
الحارثة:ماء أي ماء يا بني؟
مالك : هناك ! انظر إلى ذلك الجبل الأسمر عن شما لك.
فنظر الحارثة إلى شماله ثم قال : كل ماأراه عن شما لي
جبالا يا بني .
فقال مالك ذلك الجبل الأكثر سواد بين تلك الجبال .
فرد عليه قائلا : وكيف عرفت أن في هذا الجبل ماء ؟!
فقال مالك : أ شاهد طيور كثيرة تحوم عليه !فقد كان حاد البصر,
الحارثة: أخشى أن يكون هذا الحوم على جيفة تأكل منها تلك الطيور الجا ئعة يا بني.
فأقترب هلال من الحارثة قائلا: أتسمح لي سيدي
بالذهاب إلى ذلك الجبل لأرى هل به ماء أم لا !
فوافق الحارثة على ذهاب الرجل شرط أن لايتوقف
الركب عن المسير.
خاصة وان الجبل يقع إلى الجنوب الشرقي من
موقعهما هذا
فتحرك الركب إلى الجنوب وهلال إلى الجنوب
الشرقي
مسرعا بفرسه ألمسماه البر قاء وهي من أسرع
الخيول التي معهم .
ولم يمض من الوقت إلا بضع ساعات حتى
لحق بهم هلال وتقدم إلى الحارثة والبهجة تعلو
على وجهه ,
أبشر سيدي . لقد وجدت الماء.
الحارثة: وهل هذا الماء عذبا ؟ !
الهلالي : نعم وقد ملأت منه قربتي هذه,"
الحارثة : أعين هي أم جب ؟! " بعد أن شرب من
القربة وذاق عذوبة الماء "
هلال :بل عين جارية وفيرة المياه سيدي!
الحارثة: لقد صدق حدسك يابني "
وهو ينظر إلى مالك بمودة وفخر وإعجاب,
ثم نظر إلى هلال قائلا : سنبقى ليلتنا هنا في هذا الخبت
ويذهب معك بعض الجنود والحراس لجلب الماء
من هذه العين لنكمل مسيرتنا فجرا.
فاختار هلال أربعة من الرجال وتوجهوا إلى
العين لجلب ما يحتا جون إليه من مياه هذه العين
الجارية.
فطلب الحارثة من الرجال الباقون معه إشعال النار
وشواء ماتم صيد با لسهام والكلاب, وكان القمر
في تلك الليلة بدرا منيرا يبعث في النفس البهجة
والسرور والارتياح.
كيف لا وقد مضى على رحلتهم هذه أربعة عشر
يوما في البراري يبحثون عن المجهول.
وعندما انتصف البدر في السماء ولم يعد هلال
ومن معه أخذت الأفكار السيئة والحيرة تسيطر
على الحارثة ,غير انه لم يشعر الآخرين بما يخالجه
و يدور في عقله من هذه الأفكار, واظهر لهم عكس ذلك.
و ما إن هم الجميع بالنوم إذ هم يسمعون قرع
حوافر الخيول آتية إليهم فهب الجميع فرحين بعودة رفاقهم بالماء,
فحياهم الحارثة وأثنى عليهم ثم سألهم وهو
يشاهد احد الجنود ويدعى (عينون) وقد أصيب
واثر الدماء على ردائه ماذا حصل له بحق رب إبراهيم !؟
فرد عليه هلال :لقد هاجمه وحش بالقرب من الماء
وتعاونًا عليه فقتلناه .
الحارثة :ذ ئب أم ضبع أم نمر!؟
هلال :هو كل ماذكرت سيدي, رأس ذئب وظهر
ضبع وعين نمر.
الحارثة: ليتكم أتيتم به؟
هلال: لقد حملناه معنا على ظهر إحدى الخيول
وعندما شاهده الحارثة قال: لم أرى مثل هذا شبيها
في حياتي!
كيف قتلتموه؟!
هلال :ضربناه بالسيف على ظهره فلم يبلغ فيه
بشيْء فضربته في بطنه حتى شقت فمات, وأثناء ذلك
جاءنا إعرابي يريد الماء, فرحا ومسرورا
بقتل هذا الوحش الذي أثار الرعب والخوف
في النفوس على مدارا لسنوات الثلاث الماضية,
فقد كان هذا الوحش لايفرق بين شيخ وطفل
وذكر وأنثى ,واعتقد أن الإعرابي كان يراقبنا عن قرب .!
ثم اخبرنا أن أسم هذه العين عين خف , وذهب بنا إلى الجحر الذي كان الوحش يختبئ فيه من أعين الناس,
فوجدنا به عظام وجماجم بشر وحيوانات.
الحارثة :" وبصوت ينباء عن حزن وألم"
حسنا . قم يا نينوه( احد الحراس وله
معرفة في الطب) وداوي عينون مما أصابه
نينوه: معنا عشبه هند ية تداويه ولكنني أرى
أن اكويه أولا. فا لنار تنظف تلك الجروح وتطهرها.
الحارثة :لأبأس .قم بعلاجه حالا.
فمكثوا في مكانهم هذا حتى الفجر
وعند طلوع الشمس استيقظ الجميع وواصلوا السير
إلى أن وصلوا إلى حرة شديدة السواد
ممتدة حتى ساحل البحر قبل غروب الشمس بساعة.
فنظر الحارثة إلى من حوله قائلا :سنقضي ليلتنا هذه
هنا فابتسم مالك والفرحة تعلو على وجهه قائلا :
لم أشاهد ياأبتي أجمل من هذا المنظر الخلاب ,
فالصخور السوداء و مياه البحر الزرقاء و زبد أمواجه
البيضاء
وأشعة غروب الشمس الذهبية تجعل منها لوحة
طبيعية غاية في الجمال والروعة تزينها تلك الجزر
البحرية كفرائد العقد المنثور.
والحارثة ينظر إلى هذه الصخور البركا نية بحيرة وتعجب ,
ثم خاطب هلال متسائلا : ألا ترى معي أن وجود هذه
الصخور السوداء هنا غريب ومحير ؟!
هلال :نعم سيدي . وهي بالطبع صخور بركانية ولا أرى
فوهة لبركان هنا.
الحارثة : لابد أن بركانا قويا قذفها إلى هنا .
هلال : سمعت روايات عديدة عن هذه النيران
التي تخرج من الأرض وتلتهم الأخضر واليابس .
الحارثة : لاعليك سنأخذ قسطا من الراحة
هنا هذه الليلة.
ومكثوا ليلتهم حتى الصباح.ثم عاودوا المسير,
حتى و جدوا انفسهم
أمام ارض واسعة ذات كثبان رملية كثيفة
شديدة البياض تتوهج عليها أشعة الشمس
كلآلئ. زجا جية مضيئة تحاذي البحر وتحفها
الجبال السمراء مطلع الشمس
وأشجار السمر والنخيل والأراك تنتشر بكثرة
هنا وهناك ,
والحارثة يتأمل كل هذا دون أن ينطق بكلمة.
مالك: ليتنا نبني مدينتنا هنا يأبي.
ولم يسمع الحارثة قول مالك ؛
مالك: هل تسمعني ياأبتي!؟
فتنبه الحارثة لصوت مالك ثم قال أتخاطبني يا بني !؟
مالك : نعم .
الحارثة : ما خطبك؟
مالك : كنت أسألك ياأبتي: هل تبني المدينة التي حلمت
بها هنا في هذا المكان؟
الحارثة :لست متأكدا يا بني. ثم اتجه للركب قائلا لنجعل
من هذا المكان استراحة من عناء السفر الطويل هذا.
فحط الرجال رحالهم وأناخوا جمالهم وربطوا خيولهم
ونصبوا خيامهم وسط غابة من النخيل على سيف البحر
وسعى كل واحد منهم في تنفيذ العمل المكلف به ؛
فمنهم من يسقي الإبل والخيول ومنهم من يجهز الطعام
ومنهم من يقوم بتهيئة المكان وتنظيفه ومنهم من يصنع
أبراجا من الخشب للمراقبة والحراسة وهكذا.
وبعد أن قام كل واحد منهم بالعمل المناط به سمح لهم أمير
القافلة (الحارثة) بالراحة والتفسح في هذا المكان
الشاعري وكثبانه الرملية البيضاء التي تحتضنها
الجبال السمراء في الشرق وشاطئ البحر في الغرب.
والحارثة في مخيمه يفكر بعمق وصمت متسائلا :
هل هذا هو المكان الذي ابحث عنه؟ وهل هذه هي
الأرض البيضاء؟ وهل ابني المدينة هاهنا؟
وماذا اسمي هذه المدينة ؟ وكيف أعمرها وأحييها؟
ومن سيسكن بها؟ والعديد من التسألات التي لم يجد
لها جوابا بعد؛
ثم نهض الحارثة من مجلسه في المخيم المعد له ,
واخذ يتمعن هذه الأرض وما حاولها ,من سهول
وكثبان وجبال ونخيل وشاطئ يستقبل الموجة تلو
الأخرى وكأنه يحتضنها فرحة بقدومها إليه ,
وأشعة الشمس وقت الأصيل تهدي البحر ألوانا تتلألاء
على أمواجه الراقصة وكأ نها لحظة وداع تنتظر اللقاء,
وما إن غا بت الشمس وحل البدر بنوره الفضي الهادئ
حتى تجمع الرجال حول الحارثة
ينتظرون الأوامر ,
فطلب منهم الحارثة البدء في تحضير العشاء وتنظيم
حراسة المعسكر هذه الليلة.
مالك: أريد الإشراف على الحراسة هذه الليلة يأبي.
الحارثة : حسنا يابني لك هذا.
وبعد العشاء ذهب كل واحد منهم إلى فراشه وتولى
مالك وأثنين من الحراس حراسة المعسكر .
وعند منتصف الليل أستيقظ الحارثة من نومه مفزوعا
من حلم رآه . وبينما هو كذلك تراءى له شبح فارس
ابيض على جمل ابيض فأتجه الحارثة نحوه .
فلما دنا الحارثة من مكان ذلك الشبح استخفى فجأة
عند شجرة عظيمة ذات عروق ممتدة فقرر أن يكون
هذا موضع المدينة التي حلم بها .ثم عاد إلى فراشه
وقد أطمأن قلبه وارتاح فكره وهدئت سريرته.
وما إن أشرقت الشمس بنورها وأجتمع الركب حول
أميرهم حتى ابلغهم عزمه على بناء المدينة هنا,
هلال:وماذا أسميتها سيدي؟
الحارثة:لم يخطر ببالي اسم بعينه,
ثم أردف قائلا:أرضها بيضاء والجبال حولها تميل
إلى السواد كالحا جب , لاأرا غير الحوراء اسما يليق بها
هلال:نعم سيدي اسم على مسمى , فالحور شدة بياض
العين من سوادها,
الحارثة : مخاطبا رجاله ,هيا يارجال ابدءوا بالبناء
فلا وقت لدينا نضيعه فقد اشتقنا إلى د يارنا وأهلنا,
ثم التفت إلى هلال مخاطبا: قم بتوزيع الأعمال على
الرجال,كلا فيما يخصه ويتقنه ,
هلال :حسنا سيدي ,سأ كلف الجند والحرس بحمل
الأحجار والمؤن والمياه على الجمال والخيول والبغال
من الجبال المحيطة بنا في الحال,
فقام عمال البناء المهرة المرافقين له بالرسم والتخطيط
لمباني وأسوار وأبراجا ومداخل هذه المدينة على قطع
مدبوغة من جلود الحيوانات مخصصة لهذا الغرض.
الحارثة: يتجه إلى العمال قائلا:أريدها مدينة تضاهي
مدن الشام واليمن وتكون (محطة) للقوافل البرية
وميناء للمراكب والسفن البحرية ,
(كبير العمال) ويدعى (غُريمه):حسنا سيدي
سنعمل ليل نهار لإتمام بناء هذه المدينة كما تريد,
الحارثة :إذا رأى أحدكم قافلة من القوافل القادمة من
مكة أو من اليمن فليبلغني .
هلال : سأراقب درب القوافل وأبلغك سيدي.
و بعد ساعة من الزمن ابلغ هلال الحارثة بأن هناك قافلة قادمة من اليمن ومتجهة إلى الشام
الحارثة: حسنا خذ هذه الكتاب (رسالة) وابعثه إلى
الملك عبادة مع تلك القافلة.
لأبشر الملك , ثم يلتفت حوله باحثا عن مالك.
فلما رآه قال له متسائلا ,
أين أنت يا مالك؟
مالك: ( وهو يحاول ركوب الجواد) أنا هنا ياأبتي,
الحارثة : إلى أين أنت ذاهب يابني؟
مالك:أريد الذهاب إلى تلك النخيل ( وهو يشير بإ صبعه
با تجاه الشرق نحو روضة من النخيل تبعد بمسافة
نصف ساعة)
الحارثة : حسنا , كن حذرا.
وعندما وصل مالك إلى هذه الروضة وجدها في واد
عظيم متسع , فأخذ يتجول بين نخيلها ,وأشجار
ألأراك الكثيفة التي تحيط بها وهو يسمع أصوات
الطيور المختلفة,من عصافير وبلابل ويمام وكراوين
تعزف أجمل الأ لحان وسط هذه الروضة التي تشبه
الغابة من كثرة نخيلها وكثافة أشجارها المتنوعة.
(كجنة وسط الصحراء)
ثم نزل عن ظهر جواده وقام بربطه بغصن من أغصان
إحدى الأشجار,القريبة , واخذ حفنة من التراب بكفه
الأيمن وإذا هي ندية فعرف أن في هذه الروضة ماء,
فتتبع أثر الماء حتى وجد جدولا من الماء ينساب
بين عيدان القصب والبوص .
فعاد إلى جواده ليمتطيه ويبحث عن مصدر هذه العين .
فأتجه شرقا متتبعا لمجرى هذا الجدول الذي يظهر على
سطح الوادي أحيانا وفي باطن الأرض أحيانا أخرى ,
حتى قابله إعرابي
فسأله مالك عن أسم هذا الوادي ومصدر هذه المياه فقا ل
له الإعرابي :هذا الوادي يسمى وادي الشاقة والعين
التي رايتها قرب البحر تسمى عين سمنا , ومنبع العين
هناك ( مشيرا بأ صبعه نحو الشرق) في حرة يقال لها دبسي .
وأردف الإعرابي قا ئلا : أنت لست من هذه الديار ؟!
ما لك: نعم أنا لست من هذه الديار.
الإعرابي : ممن ؟ لحياني أنت أم سبئي ؟
مالك : لا بل نبطي .
الإعرابي : وما الذي أتى بك إلى هذا الوادي ؟
مالك: ابحث عن مصدر هذه العين لنستسقي منها .
الإعرابي : تستقون منها ! هل يرافقك احد؟
مالك : نعم معنا جنود وعمال بناء .
الإعرابي : هل تحاربون أحدا؟
مالك : لا , بل نبني مد ينة على شاطئ البحر لتكون
مركزا من المراكز التجارية في هذا الدرب .
الإعرابي: ألا تكفي مياه سمنا؟!
مالك : المياه من مصدرها تكون عذبة ونقية .
الإعرابي : صدقت .
مالك : كم يبعد منبع العين من هنا ؟
الإعرابي : مسيرة ثلاث ساعات على جواد كجوادي هذا.
مالك :مبتسما: هل أنت متجه إليها ؟
الإعرابي : لا , غير أن دربي يمر بها .
مالك : حسنا سأرافقك إليها .
الإعرابي : على الرحب والسعة .
وأثناء سيرهما في هذا الوادي الصخري سأل مالك الإعرابي عن اسمه
فأخبره بأنه يدعى : جمرة
فقال مالك : ولماذا سميت بهذا الاسم ؟
فقال جمرة : ولد تني أمي ليلة خروج النار من هذه
الأرض فسميت جمرة .
مالك : نار أي نار؟ وكيف خرجت هذا النار ؟
جمرة:نار خرجت في هذه الديار من باطن الأرض,
انظر حولك هل تشاهد غير الحرار وفوهات اللظى,
حتى الجبال مكسوة با لحلا .
مالك : أي حلا؟
جمرة: أتشاهد تلك الجبال السوداء ؟
مالك : نعم أشاهدها .
جمرة: هي ليست كذلك , هذا اللون الأسود ليس لونها
هذه حبيبات من رماد تلك النار التي غطت بعض هذه الجبال التي تشاهدها ,
كل الأسماء هنا سميت بأسماء النار
هذه حرة النار وهذه بنات لظى والحريرة وهناك جبل النار وغيرها .
حتى هذا الوادي سمي بوادي الشاقة لأن النار شقته.
مالك : كيف تشق النار الأرض؟
جمرة :ارتجفت الأرض وتصدعت الجبال ثم تشققت
الأرض و خرج الصهر والغبار من باطنها وسال كزبد
السيل حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت.
مالك : منذ متى حصل هذا؟
جمرة : روايات وقصص يتحدث بها آباؤنا وأجدادنا تقول إن هذه الحرار المنتشرة حولنا خرجت من الأرض وهي ملتهبة في عصور سابقة , لم ندركها ,
آخر هذه النيران هي التي بسببها سُميتُ جمرة
وتبا دلا الحد يث حتى وصلا إلى منبع هذه العين ,فاستأذن جمرة من مالك ليكمل طريقة إلى حيث هو ذاهب
ونزل مالك من جواده فوجدها تخرج من بين
صخور بركا نية بالقرب من الوادي وقد غطتها
الرمال والأطيان التي تجرفها السيول.
فشرب منها فإذا هي عذبة المذاق كغيث السماء ,فقرر
العودة إلى المخيم,ليخبر أباه بما شاهده ورآه ,
وما إن وصل مالك إلى المخيم حتى ذهب إلى أباه
مسرعا فعرف الحارثة الذي كان يحاور ا لعمال
ويناقشهم حول البناء وعن الخامات المطلوبة لبناء
هذه المدينة,ومشغولا على ابنه لبقائه طوال اليوم في تلك
الروضة ,أن ما لكا قد جاءه بخبر ما فبادره بقوله .
ما خطبك يا مالك وأين كنت طوال هذا اليوم؟!
مالك: خيرا ياأبتي,لقد وجدت عينا كا لنهر
الحارثة : عين ماء عذبة ؟!
مالك : نعم ياأبتي .
الحارثة : أين؟
مالك: تتبعت مجرى الماء من الروضة حتى وصلت
إلى مصدرها في حرة واسعة تسمى حرة دبسي وشاهدت
بها بيوتا قديمة ومتهدمة مبنية من الصخور .
الحارثة : وكم تبعد عنا ؟
مالك : تبعد عنا مسافة ثلاث ساعات ونصف للراكب .
الحارثة : وهل قابلت أو رأيت أحدا من أهل هذه الديار؟
مالك: قابلت إعرابي يد عى جمرة رافقني حتى وصلنا
إلى منبع العين .واخبرني عن أمور غريبة وعجيبة,
الحارثة : أمور غريبة وعجيبة , ما هي؟
مالك : اخبرني عن النار التي تخرج من الأرض
وتقذف الصخور السوداء في كل مكان.
الحارثة :إنها البراكين, الآن علمت كيف أتت
هذه الصخور إلى شاطئ هذا البحر .
مالك: وهل هذا يخيفنا ياأبتي؟
الحارثة : لا يابني ما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا .
ما يخيفنا يا بني هو شح الماء وقلته , والمياه العذبة في
هذه الديار شحيحة ووجودها نعمة ورحمة للعباد ,
ولابد أن أناس كثيرون في هذه الديار يردون هذه العين لسقياهم وسقيا مواشيهم وأنعامهم,
حتى القوافل البرية القادمة من أم القرى واليمن إلى
مملكتنا والى الشام والتي تعبر من هذا الطريق
تستسقي من آبار وعيون كهذه العين وإلا لهلكوا
من العطش والضما ,
مالك : سأرد العين غدا وأجلب منها ما يكفينا.
الحارثة :خذ معك من يساعدك على ذلك.فا لمسا فة
بعيدة يا بني.
وما إن رد مالكا بقوله : حسنا ياأبتي,
حتى وصل الرجال بجمالهم وخيولهم وبغالهم
يحملون أول دفعة من المؤن والأحجار التي سوف
يستخدمونها في البناء,ثم وصل هلال وقد سلم
الرسالة لتاجر من تجار الشام قادما من اليمن
بعد أن تعهد بتسليمها للملك عبادة شخصيا.
غريمه :ضعوا الأحجار هنا سنبدأ ببناء السور أولا,
واجلبوا لنا خشبا من جذوع الأشجار القريبة هذه فإنها
من أفضل أنواع الخشب الذي يصلح لبناء المداخل
والأبواب,كما إننا نحتاج إلى البرمة ( مادة كالإسمنت) .
فبحثوا عن البرمة فوجدوها في مكان يسمى
الهريمات.
وبدأت حركة البناء والتعمير على قدم وسا ق
ومضت أيام وليالي وهم على هذا الحال دون كلل
أو ملل, ومالك يتردد بين الروضة والعين,بين كل
آونة وأخرى,
الحارثة : يسأل الهلالي: هل رأيت مالك؟
هلال: مبتسما , رأيته متجها إلى الروضة كعا دته.
الحارثة: لقد سحرته تلك الروضة, سألحق به .
وبينما يلتقط مالك بعضا من ثمار التين قُرب
منبع العين ,إذ هو يشاهد فتاة كا لبدر في تمامه
تغسل بعض من أوانيها بالماء على صخرة
بركانية(حرة),
فغض الطرف عنها حياء وعاد أدراجه ,
فقد تربى على الفضيلة وحسن الخلق والشيم
العربية الأصيلة,
فشعرت تلك الفتاة بأن هناك شخص ما , فسارعت
إلى الاختباء وهي ترتجف من الخوف.
وركب مالك جواده عائدا إلى الحوراء
وماإن وصل إلى الروضة حتى فوجئ بوالده
أمامه.
مالك : أبتي!
الحارثة : نعم يابني , جئت لأرى سر إعجابك وحبك
لهذه الروضة.
مالك:ألا تستحق هذه الجنة حبي وإعجابي ؟!
الحارثة:نعم إنها طبيعة ساحرة يا بني, كنت أشاهدها
من بعد ولم يخطر ببا لي أنها بهذا الجمال والروعة.
ثم أردف قائلا:" وهو ينظر إلى الصخور البركانية
المتناثرة حول هذه الروضة" إننا نحتاج إلى
مثل هذه الصخور لتدعيم القواعد والأسوار فهي
شديدة الصلابة وخفيفة الوزن في آن,
مالك: توجد كميات كبيرة من هذه الصخور عن النبع
الحارثة: سنأخذ ما نحتاجه من هنا فالصخور متوفرة والمسافة قريبة .
مالك : كنت أتمنى أن ترى العين والبيوت المتهدمة
هناك .
الحارثة : هل يسكن حولها أو بالقرب منها احد؟
مالك : لم أر إلا فتاة تغسل بعض أوانيها عند العين.
الحارثة : هل خا طبتها ؟
مالك:لا لم أخاطبها, لقد فزعت عندما شعرت بوجودي
واختبأت خلف صخرة عند منبع العين.
الحارثة :ربما تكون راعية أغنام .
مالك : لا لا ياأبتي ,ليست راعية.
الحارثة: وكيف عرفت أنها ليست راعية؟!
مالك : لم أشاهد أغناما معها أو بالقرب منها, كما إنها تلبس ثيابا كالتي تجلب إلينا من اليمن.
الحارثة : لاعليك يا فتى ,دعك منها ,هيا بنا فقد اقتربت
الشمس من الغروب .
واخذ مالك يتردد على العين عدة أسا بيع ولم يشاهدها.
"كانت الفتاة (وتدعى لبنى) تراقب ما لكا دون أن
يشعر بها ثم تعود إلى الكهف الذي تسكنه وسط هذه الحرار برفقة جدتها طيلة هذه الأسابيع"
وتكرر ذهاب الفتاة إلى العين مما جعل جد تها تشك في
الأمر.
الجدة : يا لبنى,ما خطبك؟! لقد تكرر ذهابك إلى العين
لبنى: تصمت قليلا وهي مترددة أتخبر جدتها أم لا.
ثم تقول: جدتي لم أتعود أن اخفي عنك شيئا, اذهب
لأراقب شا با يأتي إلى العين.
الجدة :منذ متى وهذا الشاب يأتي إلى العين ؟
لبنى : منذ عدة أسابيع.
الجدة : هل رآك؟
لبنى :لقد رآني عند العين صدفة فاختبأتُ عنه فعا د
من حيث أتى.
الجدة : وهل خا طبك؟
لبنى : لا لم يخاطبني ولم أخاطبه.
الجدة : يا لبنى لقد أصبحت اليوم فتاة شابة عاقلة
تعرف الصواب من الخطاء والطيب
من الخبيث , وأريد أن أسدي إليك بسر وأمانة
حملتهما على عاتقي منذ أن هربنا من اليمن
وأنت طفلة رضيع قبل ستة عشر عاما,
ولا اعلم إن كان لي في العمر بقية أم لا,
لبنى : لك طول العمر يا جدتي لما تقولي هذا
و ليس لي بعد الله سواك,
فأنت أمي وأختي وكل أهلي فانا لا اعرف أحدا
منهم قط.
الجدة :" تمد يدها إلى إناء فخاري به ماء ,
فتشرب منه قليلا ثم تحدث لبنى قا ئلة :
يا لبنى لقد هاجمنا الأحباش بجيش جرار وقتلوا من
أهلنا الكثير, ودمروا بعض المدن في اليمن فأ وصاني
أباك وهو ينازع الموت أثر سهم أصابه في مقتل ,
أن أهرب بك إلى دمشق ,وأن لا أبيح لأحد عنك
شيئا حتى نصل إليها,
ثم صمت إلى الأبد , فحفرت قبر ابني الوحيد بيدي
هاتين ودفنته ثم حملتك ورحلت على ناقة كان يملكها
في ظلمة الليل , وأخذت معي ماخف وزنه من زاد وقماش
وبعض ما يلزمنا في سفرنا هذا, حتى وصلنا إلى هذه العين بعد سفر دام خمس وأربعين ليلة ونمنا ليلتنا تلك هنا وفي الليلة الثانية شعرت كأن الأرض ترتعش وتتنفس وسمعت صوت دوي يخرج من با طنها فجفلت الناقة وولت هاربة بعد أن قطعت رسنها ,
فبقينا في هذا المكان ولم استطع الرحيل بدو نها
حتى يومنا هذا.
لبنى: وهل قتلت أمي مع من قتل ؟
الجدة : لا يا بنيتي لقد ماتت أمك وهي تلدك.
لبنى : هل كان أبي جند يا في جيش اليمن؟
الجدة : لا , لم يكن من الجند , بل كان عقيدهم.
لبنى : ولهذا كنت تمنعينني من الذهاب إلى العين
والتعرف على من يأتيها ؟
الجدة: نعم كنت أخشى أن يتعرف علينا احد من الناس
فيبلغ الأعداء عنا.
لبنى : أين هم هؤلاء الأعداء؟
الجدة : علمت أن ألأحباش توغلوا في جزيرة العرب .بعد أن دخلوا اليمن .
لبنى : أعدك جدتي بأن لا أبيح هذا السر ما حييت حتى نصل إلى بر الأمان .
الجدة : لقد مكثنا هنا سنوات عديدة وحان الرحيل.
لبنى: جدتي لقد شاهدت أناس يحملون أحجارا
من الحرة القريبة من العين.ويذهبون بها ناحية
البحر .
الجدة : كيف يحملونها ؟
لبنى : يحملونها على بغال وجمال وخيول.
الجدة: هؤلاء ليسوا من هذه الديار ,فأهل هذه الديار لا
يستخدمون البغال.
لبنى : ومن أين هم إذا؟!
الجدة : ربما كانوا من الأنباط أو اللحيان.
لبنى : لنرحل معهم إذا ما رحلوا إلى الشام.
الجدة : تريثي يا بنيتي واتركي هذا الأمر لي .
تسرح لبنى بخيالها وكأنها تنظر إلى العين فتشاهد ذلك
الفتى قادم إليها مبتسما على فرس ابيض ويحمل بيده
اليمنى سيف يتطاير منه شررا كا لبرق, فتناد يها جدتها
فتقطع عليها حلمها وخيا لها ,
لبنى : لبيك جدتي ,
الجدة :ائتني بعيدان من الحطب لنشعل نارا للعشاء.
فتسرع لبنى لتجلب قليلا من الحطب تضعه عند مشب النار المعتاد.
وخيال مالك يمر أمام عينيها كالطيف.
وهي لا تعلم أن حالها هذا هو حال مالك وطيفها
ملازم له منذ أن رآها أول مرة.
ولم تنم لبنى ليلتها هذه , فقررت في سرها أن تسأله
من أي الديار هو, إن هي رأته غدا.
وما إن أشرقت الشمس حتى وجد مالك نفسه عند النبع
راكبا على جواده , متسائلا : لماذا أتيت إلى هنا مبكرا
على غير عادتي ,هل أتوقع رؤيتها هل أريد مخا طبتها
فقرر العودة إلى المدينة الناشئة مدينة الحوراء التي
لم ينتهي البناء منها بعد,وما إن همّ با لعودة
وإذا بتلك الفتاة تسير نحوه بين الأغصان
كزهرة الياسمين ,
ولم يكن ليصدق عيناه , فنزل عن ظهر جواده
وخطى نحوها حتى قابلها وجها لوجه وكأنه في حلم,
فحياها فردت التحية .
ثم قال لها :" وهو يتمعن محياها"
أنا مالك بن الحارثة .فلم ترد عليه بحرف واحد ,
ورجعت من حيث أتت وهي تلتفت إليه عدة مرات
قبل أن تختفي بين الأغصان والصخور.
ومكث مالك في مكانه غير مصدق بما حدث,
وصورتها أمام عينيه لم تغب,فتلفت يمينا وشمالا لعله
يشاهدها فلم ير غير أغصان الأراك تتما يل
مع نسيم الصباح وكأ نها تتراقص فرحا بقدومها إليه.
فركب جواده ببطء شديد وعاد إلى الحوراء
وعادت لبنى إلى جدتها والبسمة على ثغرها
تنطق فرحا وسرورا,فلم تهتم جدتها بما لاحظته
على لبنى من فرح وسرور وفضلت تأجيل الحد يث
حوله حتى المساء.
وعندما حل الظلام والهدوء سألت الجدة حفيدتها قائلة,
أرك سعيدة يا لبنى ,اخبريني ما ألذي أسعدك هذا اليوم
فسعادتك هي سعادتي !
لبنى : كل يوم وأنا سعيدة وكل شيء في الحياة يسعدني
إلا الموت والقتل والد مار.
الجدة : أخبريني ماذا حدث لك صباح هذا اليوم؟
لبنى: قابلته يا جدتي .وحياني فحييته.
الجدة : من هو!؟
لبنى : مالك بن الحارثة.
الجدة: من يكون مالك هذا؟
لبنى : الفتى الذي أخبرتك عنه يا جدتي.
الجدة: الفتى الذي كنت تراقبيه عند النبع ؟!
لبنى : نعم هو يا جدتي , أدب وعفة ومروءة
الجدة : تتمتم ببعض الكلمات التي لم تفهمها لبنى
ثم تقول هذا ما كنت أخشاه عليك يا بنيتي .
لبنى : مما تخشين ؟
الجدة : مما أراه في عينيك.
لبنى : وماذا رايتي .؟
الجدة : رأيت ما يسهر العين ويشقي القلوب.
اصد قيني القول يا لبنى , هل تعلق قلبك بهذا الفتى؟
لبنى : لا أعلم يا جد تي غير أن رؤيته تبعث في قلبي
السرور والبهجة .
الجدة : لو سألك من أنت ومن أي الديار فلا تجيبيه .
لبنى : أفي هذا خطر علينا ؟!
الجدة : ربما يا بنيتي ,
تنظر لبنى إلى جدتها نظرة حائرة , ثم تذهب إلى
فراشها فقد حان وقت نومها.
وعند طلوع الفجر استيقظ مالك وذهب إلى أبيه
ليلقي عليه تحية الصباح كعادته ثم تجول حول
المدينة ليتابع أعمال البناء وقد أوشكت على ألا نتهاء
ونظراته تتجه إلى الروضة والنبع ,
فلاحظ الحارثة ذلك ثم قال: ما بك يا مالك تنظر
هناك أتريد الذهاب إلى العين ؟
مالك : لا ليس الآن .
الحارثة : الم تقابل تلك الفتاة ؟
مالك : لقد قابلتها يوم أمس .
الحارثة : هل خا طبتها ؟
مالك:خا طبتها فلم تخاطبني إلا برد التحية .
الحارثة : أتريد رؤيتها مرة أخرى؟
مالك: نعم , وأتمنى ذلك.
الحارثة : هل تعلق قلبك بها ؟
مالك : أن صورتها لم تفارق مخيلتي منذ أن
شاهدتها أول مرة .ثم أنشد قائلا :
مروا مرور الذي لو مر
لمحت بصر والحنين سنين
وقلبي له الطرف ما يأمر
ولا هم عن الطرف منسيين
يصمت الحارثة قليلا ثم يسأ ل مالك قائلا:
وماذا عن أبنت عمك سهيل ؟
مالك : غزالة , وما دخل غزالة بهذه الفتاة؟
الحارثة : غزالة لك وأنت لها , هذه هي عاداتنا
وتقاليد نا يا بني.
مالك :يصمت والحيرة في عينيه ثم يرد قائلا:
لن أعصي لك أمرا ياأبتي .وأتمنى أن يطاوعني قلبي
وينساها,
ويتجه مالك إلى جواده ببطء ثم يضع يده على رأس
الجواد وكأنه يحاكيه ويشكو له , وبعد برهة من
الزمن يركب مالك الجواد ويتجه نحو العين وما إن
وصل إلى العين وإذا بلبنى أمامه وكأنها تنتظره ,
فترجل من الجواد وأقترب منها
فحياها ثم قال لها :اخبريني من أنت ؟
لبنى : أسمي لبنى .
مالك : أكملي اسم أباك ومن أي العرب أنت ؟
لبنى: لا أعلم كل ما أعرفه أن اسمي لبنى.
مالك: وهو يتأمل وجهها الذي يشبه البدر ,
لا أصدق أن أحدا لا يعرف أصله وفصله ونسبه .
لبنى :" والدمعة تتحجر في عينيها ",
لا أعرف عن أهلي شيئا ,
مالك : أتخشين شيئا ما ؟
لبنى :"تجلس على الأرض وتمسك بحبات الحصى
وترمي بها في العين في حيرة من أمرها ,
وإذا بجدتها قد وصلت ,فنهضت بسرعة وبعض
الحصى في يديها .
لبنى : جدتي ما الذي أتى بك إلى هنا ؟
الجدة : تتجه إلى مالك, تحيه فيرد مالك التحية ,
ثم تسأله من أنت أيها الفتى ؟
مالك : أنا مالك بن الحارثة وجدي عبادة ملك الأنباط
( ولبنى تسمع ذلك بدهشة واستغراب وسرور)
الجدة :وما الذي أتى بكم إلى هنا ؟!
مالك :جئنا لنبني مد ينة في هذه الديار يا خالة.
الجدة : وهل ستمكثون هنا طويلا ؟
مالك : لا, سنعود إلى ديارنا قريبا فقد أوشكنا
على إتمام بناء هذه المدينة , وقد أطلقنا عليها اسم الحوراء ,,ثم يضيف قائلا :
سأ لت لبنى من أين هي فلم تجبني,
من أي الديار أنتما يا خالة ؟
الجدة : ولما تسأ ل؟ دعنا وشأ ننا ,
ثم التفتت ,إلى لبنى وأمسكت بيدها واتجهت بها إلى الكهف الذي تسكناه ,
ولبنى تلتفت إليه بين كل خطوة
وخطوة و مالك ينظر إليهما حتى تواريا عن نظره
فتابعها حتى يعرف المكان الذي تسكنه لبنى ثم عاد
متثاقلا إلى المدينة وطيف لبنى أمام عينيه لا يفارقه
لحظة,
وعند ما وصل إلى المدينة دعاه أباه ثم قال له:
ما بك يا مالك أراك شارد الذهن مشتت الفكر
منذ أن رأيت تلك الفتاة ؟ الم اطلب منك نسيانها ؟
مالك : لقد سكنت لبنى في قلبي,
ولو استطيع نسيانها ما ترددت أبدا .
الحارثة : لبنى وهل هذا هو اسمها ؟
مالك : نعم ياأبتي اسمها لبني .
الحارثة: البعد نسيان يا بني , وغدا أو بعد غد سنرحل
إلى ديارنا فقد انتهينا من بناء الحوراء. وأعتقد أن أمرا ما قد حصل في البتراء .
مالك :هل سيبقى أحدا من الحراس هنا لحراسة الحوراء؟
الحارثة : سيبقى ثلاثة من الحراس .
مالك : ألا تسمح لي با لبقاء معهم ؟
الحارثة : معهم أم مع لبنى ؟!
لا يا بني لا حاجة لنا في بقائك هنا فأمك تنتظر قدومك بفارغ الصبر.
فاستأذن مالك وذهب إلى فراشه وهو يفكر في الرحيل
غدا وفراق لبنى , فقرر إن يفاتح أبيه بالزواج منها ,
فعاد إلى أبيه قائلا :
أريد منك ياأبتي أن تطلبها لي حتى ترحل معنا إلى
البتراء.
الحارثة :من أي العرب هي ؟
مالك : سألت لبنى هذا السؤال,
وسألت جد تها فلم أجد منها جوابا .
الحارثة : وهل تريد أن تتزوج من فتاة لا نعرف
عنها شيئا .؟
فطأطأ مالكا رأسه وعاد إلى فراشه .
وعند منتصف الليل ارتجفت الأرض فا استيقظ الحارثة
وأستيقظ معه ما لك وبقية الرجال وكأنهم في حلم أو كابوس وفجأةً سمعوا صوت دوي هائل كصوت الرعد ثم ظهرت نارُ من ناحية الشرق كادت أن تضيء ظلمة ليلتهم
وبقيت على هذا الحال قرابة ساعة ثم عاد السكون وكأن شيئا لم يحدث,
و الجميع في حالة من الدهشة والاستغراب عما حدث ,
ومالك واجم لا يتكلم ,
الحارثة : لاعليكم هذه ثورة بركان حما نا الله منها .
ثم ألتفت إلى مالك وقال له : ما بك يابني؟
مالك : هالني ما رأيت يأبي .
الحارثة : أتفكر في شيء ما ؟
مالك :( بعد تردد ) أخشى أن يصيبها أذى .
الحارثة : من تقصد , لبنى ؟
مالك : نعم لبنى.
الحارثة : قدرالله لا راد له, وستكون بخير
إن شاء الله.
مالك : هل تسمح لي با لذهاب لأطمئن عليها ؟
الحارثة : الصباح رباح يابني .
مالك : حسنا ياأبتي .
وعاد كلٍٍِِ إلى فراشه.
وما إن طلعت الشمس حتى هم مالك بالذهاب إلى
العين فدعاه أباه قائلا : تمهل يا مالك فسأذهب معك
إلى العين .
مالك : لنأ خذ معنا أثنين من ألإبل أو الخيول. فقد نحتاج إليها .
وركب كل واحد منهما جواده ومعهما جوادين آخرين متجهين نحو النبع .
وعندما وصلا إليه لم يجدا أحدا عند الماء,
فقال مالك : كأ نني أشاهد هذه الأرض لأ ول مرة .
الحارثة : كيف , أليس هذا مكان سكناها ؟
مالك: نعم , هذا هو نبع العين بعينه , وقد تغير كل ماحولها
الحارثة : ربما بفعل البركان أو الزلزال الذي حدث ليلة البارحة .
مالك : لعلها في الكهف ولم تأتي بعد .
الحارثة : أتعرف مكانه ؟
مالك : نعم إنه قريب من هنا .
فبحثا عنها في الكهف فلم يجدا للكهف أثرا .
وبدت الحيرة والدهشة والحسرة على وجه مالك .
متسائلا أين هي وماذا حدث لها , حُرقت أم ُقتلت
ثم يسأل أبيه : أين هي ياأبتي هل أصابها
ضر هل ماتت لبنى هل تهدم الكهف عليها وعلى جدتها
الحارثة :تماسك يابني وكن صلبا . عسى أن يكونا بخير
ثم يخاطب الحارثة نفسه بصمت وهو يرى أبخرة ألد خان
تخرج من بين الصخور هنا وهناك قائلا : هذه النار لا تبقي اخضر ولايا بس,
ثم ينظر حوله متأملا في اسرارهذا الكون العجيب.
وأخذ مالك ينظر يمينا وشمالا عسى أن يرى أحدا يسأله
عن لبنى وعما حدث لها ,ولكن بلا جدوى
الحارثة : هيا هيا يابني لنعد إلى الحوراء , فإننا سنعود
إلى البتراء غدا.
مالك :وٍلٍما هذه العُجالة ياأبتي؟
الحارثة : لقد وصلتني رسالة من الملك مع أحد
التجار القادمين من بترا يوم أمس يطلب مني سرعة
العودة ولم يفصح لي عن السبب , ولابد أن شيئا
ما قد حدث هناك.
مالك : حسنا يا أبي لنرحل إذاً .
ثم ذهب مالك مسرعا إلى الكهف وامسك بقطعة من
الجير وكتب على الجدار الصخري
المتبقي من ا لكهف لن أنساك يا لبنى ما حييت .
ثم عاد إلى والده والحزن يملأ قلبه ,قائلا : شيء بداخلي
يقول لي أن لبنى على قيد الحياة ياأبتي.
الحارثة : أتمنى ذلك يا بني .
وركبا كل منهما جواده وعادا إلى الحوراء ,
الحارثة : مخا طبا الجمع ,
سنرحل إلى د يارنا غدا مع شروق الشمس ,
وسيبقى ثلاثة من الرجال حراسا للمدينة.
هلال : سأختار منهم إذا سمح لي سيدي .
الحارثة : لك هذا .
وفي صباح اليوم التالي تحرك الركب عائدا إلى البتراء
وعند وصولهم إلى القصير قابلهم الحارسان اللذان
بقيا فيه أثناء سفرهم إلى الحوراء ,و قدما للحارثة
كنز من الذهب والفضة والأحجار الكريمة وجدوه
في القصر.
وعادوا جميعا إلى البتراء , فلما وصلوا إليها قابلهم
سهيل أبن الملك عبادة الشقيق الأصغر للحارثة
وصافح أخيه الحارثة با كيا ,
الحارثة : ما الذي حدث يا سهيل؟
سهيل : لقد مات أبا نا يا حارثة بعد أن داهمه المرض وكان ينتظر مجيئك ولكن الأجل وافاه ليلة البارحة .
الحارثة :" يتحجر الدمع في عينيه متظاهرا
بالصبر والسكينة " هل دفنتموه ؟
سهيل : كنت على وشك دفنه , فلما علمت
بقدومك انتظرت.
الحارثة : حسناً فعلت .
ولم يتمالك مالك نفسه من البكاء على جده وهو
يقول" لم يكن راغبا في سفري ليتني لم اذهب ليتني
لم اذهب ",وأسرع إلى قصر جده ليلقي عليه النظرة
الأخيرة.
واجتمع الناس للعزاء , وأصبح الحارثة
ملك للأنباط .
وأخذ مالك يحدث من في القصر عن
هذه الرحلة الرائعة وما شاهده في تلك الديار وعن مدينة
الحوراء التي بناها هناك , وعن العيون والرياض والواحات والجزر التي حول الحوراء وعن البركان الذي ثار شرق الحوراء , وما تبعه من هزات ود خان وعن كل ما شاهده في هذه الرحلة ذهابا وإيابا,
ومالك الذي أصبح ابن الملك يحدث أمه عن تعلقه بلبنى وجمالها ومصيرها الذي لا يعرف عنه شيئا .
وبعد مرور عشر سنين من الحكم الم بالملك مرضا
عضال حار به أطباء وحكماء الدولة .وبقي مالك
ملازم لأبيه طوال مرضه لا يفارقه لحظة ,
حتى وافاه الأجل المحتوم بعد شهور عدة من مرضه هذا ,
فأصبح مالك ملكا وعمره لم يتجاوز تسع وعشرون عاما.
فأخذ ينظم أمور الدولة بحكمة واقتدار
وحمى الدولة من أطماع ألأعداء والحاقدين,
وسمى ابنه من زوجته غزالة عبادة الثاني وسمى أبنته لبنى.
وبعد عدة سنوات جهز قافلة للذهاب إلى الحوراء
ليستطلع أحوالها وأحوال حراسها ,بعد أن سمع عنها من التجار القادمين من مكة واليمن حيث
أصبحت من أهم المراكز للقوافل التجارية ومن أهم
الموانئ البحرية على بحر القلزم ,كما يأمل أيضا
بلقاء لبنى ,
وعندما وصل إليها وجدها مدينة عامرة ووجد بها بيتا
مبني من العظام والأخشاب المجلوبة من الهند
والحبشة, وأدهشته فكرة البناء هذه,واخذ يسأل عن صاحب هذا البيت فلم يجد من يجبه
إلا عجوز لا تكاد تقوى على القيام . فحياها ثم قال لها
من بنا هذا البيت يا خالة ؟
العجوز :بناه رجلا يقال له عبد الدار بن حبيب .
مالك : ولماذا بناه هنا في الحوراء ؟
العجوز : أراده كعبة يستميل بها العرب .
مالك : وهل وافقه قومه على هذا ؟
العجوز : لا لا لم يوافقه أحد.
مالك : الكعبة المشرفة هي التي بناها إبراهيم عليه
السلام في الأرض المباركة ببكة , ولا كعبة غيرها.
فأمر مالك الجند بهدمها , فهدموها .
العجوز : هل تسمح لي بأخذ ألواحا من أخشاب هذا البيت الذي أمرت بهدمه .
مالك : وما حاجتك بها ؟
العجوز : أريد صنع قارب يأخذني إلى جزيرة لبنى .
مالك : جزيرة لبنى ! أين هي ؟
العجوز :( وهي تشير بإ صبعها ناحية البحر) ذلك الجبل الصغير المنقطع في البحر .
مالك: والدهشة والاستغراب على وجهه " لبنى ومن
اسماها بهذا الاسم ؟ وكيف تستطيعين الإبحار وأنت عاجزة ؟!
العجوز : "بصوت مليء بالحزن والشجن"
أنا من سميتها جزيرة لبنى , وأريد أن أكون بجانبها .
مالك : ولماذا هذا الاسم بالذات ؟
العجوز : "تصمت ثم تأن بألم " سميتها على أسم
حفيد تي لبنى.
مالك :أنت جدتها ؟
العجوز : نعم أنا جدتها .
مالك : وأين هي ؟
الجدة : في تلك الجزيرة .
مالك : (وهو يحاول التظاهر بالهدوء والسكينة ) أتسكن لبنى تلك الجزيرة ؟.
الجدة : نعم تسكن الجزيرة إلى الأبد .
مالك: هل ماتت لبنى ودُفنت في الجزيرة؟!
العجوز: نعم أرادت أن تبقى بعيدا عن الناس عن كل
الناس" ولكن ٍلٍما هذه الأسئلة؟ ومن أنت؟
مالك : أنا مالك بن الحارثة ملك الأنباط ,
أخبريني ماذا حدث لها فإ نني جئت ابحث عنها.
العجوز: أنت مالك ذلك الفتى الذي أحبته لبنى
سامحني أيها الملك , سا محيني يا لبنى
" وهي تبكي بحرقة"نحن من اليمن وعند ما
أخبرتني أنت انك ابن الحارثة بن عبادة وجدك ملك
الأنباط وكنت اعلم مابين دولتنا ودولة الأنباط من مناوشات
فخشيت على لبنى وهربت بها في تلك الليلة التي
قابلناك بها دون رضاها ,
وكنت اعلم أن هناك جبل منقطع في البحر
فذهبنا في ظلمة الليل مرتجلين إلى الشاطئ , وأثناء
سيرنا خرجت نار من خلفنا وارتعشت الأرض وسمعنا صوت دوي هائل ثم علمت فيما بعد أن نارا خرجت من باطن الأرض التي كنا نسكنها فسلمنا الله منها .
مالك : جئت صباح ذلك اليوم أبحث عنكما فضننت
أن النار أحرقتكما , غير أن هاجس في نفسي يقول
لي أن لبنى عا ئشة أكملي ياخاله .
فوصلنا صباح ذلك اليوم ,إلى ساحل البحر
فوجدنا بحارا يملك قاربا صغيرا فأ بحر بنا إلى ذلك الجبل
نظير أجر .
مالك :وهل كان معكما مال ؟
الجدة :نعم , خاتما من فضة أهداه لي أبي يوم عرسي .
فلما وصلنا إلى ذلك الجبل رأيت أناس يعيشون
في أكواخ صغيرة . فرجوته أن يبعد نا عنهم,
فأوصلنا إلى جبل صغير آخر قريب منه ,ووعدني بكتمان هذا السر ثم تركنا ورحل ,
وبقينا في هذه الجزيرة ثلاثة أسا بيع على أحسن
حال يتردد علينا البحارة والصيادون ,
حتى اخبرنا احد ألبحاره
بأ نكم رحلتم عن هذه الديار ,فحزنت لبنى حزنا عميقا
على رحيلك ,فأصابها الوهن والمرض حتى ما تت
قبل أن نعود إلى الحوراء أو النبع ومن ثم نرحل إلى دمشق
أو نعود إلى اليمن. فدفنتها في هذه الجزيرة
وسميتها لبنى , وعدت إلى شاطئ الحوراء المدينة التي
بنيتموها مع بحار كان يبحث عن ألؤلؤ والأصداف
مالك : وما ألذي جاء بكما إلى هنا ؟
فقصت عليه حكا يتها . وهروبها من اليمن با بنة ابنها عندما هاجمهم الأحباش,
مالك :وكيف كنتما تعيشان طيلة هذه السنوات عند النبع؟
الجدة : كنا نقتات من عسل النحل وبعض ما نزرعه
من الحب والدخن,( تصمت قليلا ) ثم تقول:
كنت أصنع الرحى من هذه الصخور لأ طحن بها الحب والدخن , واليوم كما ترى عاجزة لأ أ ستطيع القيام .
مالك: : لو أخبرتني بقصتها لما تركتها ,
حتى أنت يا خالة لم تخبريني .
(تكاد عيناه تذرف الدمع حزنا على لبنى) وهو يتمتم بصوت لا يكاد يُسمع ,
ذاك نصيبها وهذا نصيبي, وخيال لبنى يطارده كلما نظر يمينا وشمالا ,فعقد العزم على العودة إلى مملكته بعد أن أطمأن على أحوال مدينة الحوراء وقرر مساعدتها في العودة إلى اليمن معززة مكرمة بعد ن أمر لها بمال وزاد وحارس وجواد*******


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.