"ريمونتادا" مثيرة تمنح الرياض التعادل مع الفتح    محرز: هدفنا القادم الفوز على الهلال    "روشن 30".. الهلال في مواجهة التعاون والاتحاد أمام أبها    شراكة بين "البحر الأحمر" ونيوم لتسهيل حركة السياح    المملكة: صعدنا هموم الدول الإسلامية للأمم المتحدة    "جوجل" تدعم منتجاتها بمفاتيح المرور    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية    تعاون "سعودي أوزبكي" بمجالات الطاقة    وزير الخارجية يستعرض استعدادات"إكسبو 2030″    بدء إصدار تصاريح دخول العاصمة المقدسة إلكترونياً    " عرب نيوز" تحصد 3 جوائز للتميز    "تقويم التعليم"تعتمد 45 مؤسسة وبرنامجًا أكاديمياً    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    السودان يعيش أزمة إنسانية ولا حلول في الأفق    نائب وزير الخارجية يلتقي نائب وزير خارجية أذربيجان    «التجارة» ترصد 67 مخالفة يومياً في الأسواق    فصول ما فيها أحد!    أحدهما انضم للقاعدة والآخر ارتكب أفعالاً مجرمة.. القتل لإرهابيين خانا الوطن    وزير الدفاع يرأس اجتماع «الهيئة العامة للمساحة والمعلومات الجيومكانية»    سعودية من «التلعثم» إلى الأفضل في مسابقة آبل العالمية    «الاحتفال الاستفزازي»    وفيات وجلطات وتلف أدمغة.. لعنة لقاح «أسترازينيكا» تهزّ العالم !    ب 3 خطوات تقضي على النمل في المنزل    شَرَف المتسترين في خطر !    في دور نصف نهائي كأس وزارة الرياضة لكرة السلة .. الهلال يتفوق على النصر    لجنة شورية تجتمع مع عضو و رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الألماني    انطلاق ميدياثون الحج والعمرة بمكتبة الملك فهد الوطنية    الأسهم الأمريكية تغلق على ارتفاع    الخريجي يشارك في الاجتماع التحضيري لوزراء الخارجية للدورة 15 لمؤتمر القمة الإسلامي    136 محطة تسجل هطول الأمطار في 11 منطقة بالمملكة    تشيلسي يهزم توتنهام ليقلص آماله بالتأهل لدوري الأبطال    مقتل 48 شخصاً إثر انهيار طريق سريع في جنوب الصين    وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل الجوية ويشهد تخريج الدفعة (103)    كيف تصبح مفكراً في سبع دقائق؟    قصة القضاء والقدر    تعددت الأوساط والرقص واحد    يهود لا يعترفون بإسرائيل !    كيفية «حلب» الحبيب !    ليفركوزن يسقط روما بعقر داره ويقترب من نهائي الدوري الأوروبي    اعتصامات الطلاب الغربيين فرصة لن تعوّض    من المريض إلى المراجع    رحلة نجاح مستمرة    أمير جازان يطلق إشارة صيد سمك الحريد بجزيرة فرسان    «التعليم السعودي».. الطريق إلى المستقبل    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    القبض على فلسطيني ومواطن في جدة لترويجهما مادة الحشيش المخدر    مركز «911» يتلقى (2.635.361) اتصالاً خلال شهر أبريل من عام 2024    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ    محافظ بلقرن يرعى اختتام فعاليات مبادرة أجاويد2    مباحثات سعودية فرنسية لتوطين التقنيات الدفاعية    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم فعالية "التحصينات"    "التخصصي" العلامة التجارية الصحية الأعلى قيمة في السعودية والشرق الأوسط    المنتخب السعودي للرياضيات يحصد 6 جوائز عالمية في أولمبياد البلقان للرياضيات 2024    مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية    الوسط الثقافي ينعي د.الصمعان    ما أصبر هؤلاء    حظر استخدام الحيوانات المهددة بالانقراض في التجارب    هكذا تكون التربية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل الثاني عشر: الرعاية الصحية في تربه
نشر في عناية يوم 20 - 03 - 2011

تبعد محافظة تربه نحوا من 160 كيلومتراً شرقي مدينة الطائف على الحدود بين الحجاز ونجد ,. تتكون المحافظة من مدينة تربه ومجموعة من القرى والهجر تحيط بها (الخريطة).و يبلغ عدد سكانها نحواً من 50.000 نسمه . تتبع محافظة تربة إداريا منطقة مكة المكرمة... من أبرز معالمها جبل حضن , ومن هنا جاء القول السائر.. من رأى حضناً فقد أنجد.
ينحدر سكان تربه من عدد من القبائل أكبرها قبيلة البقوم بفخذيها وازع ومحاميد. الى جانب الأشراف والدواسر وغيرهم . ولتربه مكان بارز في تاريخنا الحديث إذ التقت فيها جيوش السلطان عبدالعزيز والشريف حسين بن علي في موقعه فاصلة في عام 1337ه، (1919م) هزم فيها جيش الشريف حسين بقيادة إبنه الشريف عبد الله بن الحسين، ومنها انطلقت جيوش السلطان عبدالعزيز إلى بقية مدن الحجاز،ثم تلى ذلك توحيد المملكة تحت أسم مؤسسها المغفور له الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
أول زيارة لي إلى تربه كانت في عام 1967 ميلادية. كنت قد حصلت يومها على الماجستير في الصحة العامة من جامعة جونز هوبكنز بأمريكا وبدأت مرحلة التحضير لرسالة الدكتوراه. ولأن دراستي كانت في قسم الصحة الدولية بالكلية، ومن شروط القسم أن يجرى البحث الميداني للدكتوراه في بلد نام خارج أمريكا فقد عرضت على الكلية أن تمول بحثي الميداني في بلد فيه للكلية مشاريع بحثيه مثل بيرو أو الهند أو أفغانستان، وأصررت من جانبي على أن أجري بحثي الميداني في بلدي. وبعد لأي وافقت الجامعة على رغبتي شريطة أن تتكفل المملكة بمصاريف البحث بما في ذلك استضافة أستاذين للإشراف على بحثي في المملكة , وتوفير فريق من المساعدين الصحيين ووسائل للسفر والإقامة. و لم يكن لها بعد الله إلا الشيخ حسن آل الشيخ رحمه الله وزير المعارف ووزير الصحة بالإنابة، الذي وافق على جميع شروط جامعتي بالرغم من اعتراض بعض من حماة المال والإدارة الذين اكتشفوا أن بحثي الميداني للدكتوراه – وكان الأول الذي يجرى في المملكة – سيفتح الباب لباحثين آخرين مما سيكلف المملكة من أمرها شططا .. عجبي!
غادرت أمريكا إلى المملكة لأخذ موافقة الوزارة على إجراء البحث والاستجابة لشروط الجامعة , ولأجري زيارة استطلاعية لاختيار موقع البحث . وكانت فكرة البحث قد تبلورت: دراسة مقارنة لصحة الأطفال ومؤثراتها البيئية في ثلاثة مجتمعات، القرية، والهجرة، والبادية.
تنقلت بين أواسط المملكة وأطرافها في محاولة للعثور على مكان مناسب للبحث تتجاور فيه المجتمعات الثلاثة . في نهاية المطاف وأنا في زيارة لمعالي الشيخ عبد الرحمن أبا الخيل وزير الشئون الاجتماعية آنذاك وجدت ضالتي. أرشدني معاليه إلى تربه حيث تجتمع القرية والهجرة والبادية. وأضاف مشكوراً أن مركز التنمية الاجتماعية في تربة يمكن أن يكون مقراً للبحث ومقاماً لأسرتي ولفريق البحث.
هدية جاءتني من السماء. كيف لا وراتبي الذي أتقاضاه من وزارة المعارف لا يزيد عن ألف ريال في الشهر. قد يكفيني وزوجتي وابنتنا سحر ذات الثلاثة أعوام للأكل والشرب ولا شيء وراء ذلك من متطلبات الحياة. وهاهو الوزير يعرض علىَ سكناً مجاناً في مركز التنمية. المبنى الوحيد بالاسمنت المسلح في تربه إلى جانب مقر الأمارة. زودني الشيخ عبد الرحمن أبا الخيل بخطاب إلى مدير مركز التنمية آنذاك نعيم نمكاني رحمه الله. كم تمنيت لو أني احتفظت بصورة من الخطاب , فقد كان انعكاساً لشخصية الرجل الكبير عبد الرحمن أبا الخيل.
بدأت مسيرة البحث الميداني الذي استغرق ثلاثة شهور. رافقني في البحث فريق من 15 شخصا ما بين ذكور وإناث من بينهم زوجتي. من شاء أن يعرف المزيد عن ما صادفنا في عملية البحث من مصاعب ومشاق , وما خالج مشاعرنا من أفراح وأتراح فليعد إلى كتابي "أيام من حياتي"*
بفضل من الله أكملت الدراسة , وجمعت أوراق البحث وملفاته في ثلاثة صناديق (كوابر) شحنتها إلى مدينة بلتمور مقر إقامتي في أمريكا. وبالاستعانة بالكمبيوتر الذي كان يملأ فراغ حجرة قمت بتحليل المعلومات وكتابة الرسالة. ومن الله علىَ بفضله. اجتزت امتحاناتي وحصلت على شهادة الدكتوراه.
بعد أن عدت من بعثتي إلى المملكة في عام 1969 تتابعت الأعوام . تنقلت فيها بين
وزارة الصحة، وجامعة الملك سعود ( جامعة الرياض آنذاك) , قبل أن أفرغ في عام 1981 لتأليف كتاب أصف فيه تجربتي في تربه. وكان لابد لي وأنا في صدد تأليف
كتابي ذاك من أن أزور تربه لبضعة أيام لأشاهد عن قرب ما تغير فيها وتبدل . صدر الكتاب أول ما صدر باللغة الانجليزية , تحدثت فيه عن تجربتي في تربه في عام 1967 .
وأضفت فصلاً عن تربه كما وجدتها في عام 1981 , وفصلاً أخر عن الرعاية الصحية في تربه كما تصورتها في عام 1990 . ثم ترجم الكتاب إلى اللغة العربية في عام 1983 برعاية سمو الأمير طلال بن عبدالعزيز ونشرته تهامة *
واليوم وأنا مزمع على أن أسطر فصلاً عن الرعاية الصحية في تربه في كتابي هذا الذي بين يديك، ما كان لي أن أفعل بدون أن أزور تربه مرة أخرى لأرى ماذا فعلت بها الأيام.
في الصفحات التالية سأقص عليك قصة تربه والرعاية الصحية فيها .. تربه في ماضيها ( عامي 1967 و 1981) ، وتربه في حاضرها(عام 2010 ) , وتربه في مستقبلها كما أراها أو بالأحرى كما أتمنى أن أراها بعد ربع قرن من اليوم (عام 2035 ) . ما سأحدثك به هنا ستجد نبذاً منه في كتبي التي أشرت إليها أنفاً. أما إذا مللت حديثي فلك أن تترك هذه الصفحات جانباً.
تربه في الماضي*
في صيف عام 1967م أجريت دراستي الميدانية للدكتوراه في تربه . عشت فيها أنا و زوجتي وابنتي مع فريق العمل ثلاثة شهور . ربطتني معهم أواصر المودة والتآلف والهدف المشترك والعمل الجاد. كنا نعمل أسبوعين متواصلين ثم نقضي أجازة قصيرة لمدة يومين بعضنا في الطائف والبعض الآخر في جده للاستجمام ولمن يرغب أن يزور أهله , وفي هذين اليومين كنت أنهي متطلبات البحث الإدارية في الدوائر الحكومية في الطائف . وعندما أستكمل البحث وعاد كل منا الى قواعده, كان يجمعنا إحساس غامر بأننا أنجزنا شيئا , وفي الوقت نفسه سنفتقد الصحبة الطيبة والعمل الجماعي.
هل أستطيع أن أنسى فاطمة جمعان الممرضة السعودية التي كانت تعمل في مستشفى الملك عبدالعزيز بمكة , وعندما تسامعت بأن طبيبا سعوديا يبحث عن ممرضة تنضم إلى فريق البحث في تربه تطوعت بأريحية للانضمام إلى فريق البحث.
هل أستطيع أن أنسى السيدة شاميه شامي الباحثة الاجتماعية السورية التي انتدبت للعمل معنا للعمل شهراً عادت بعده إلى جدة. ثم فوجئنا بها بعد يومين تعود إلينا قائلة لن أترككم تعملون ليل نهار في تربه وأنا وراء مكتبي في جدة في غرفة مكيفة.
هل أنسى زوجتي ومرافقاتها وهن يتنقلن في حوض السيارة الونيت بين مضارب البادية في قيظ الظهيرة من شهر أغسطس , يملأن استمارات البحث عن الأوضاع الصحية والمعيشية للأسر؟
هل أستطيع أن أنسى الصداقات التي ربطتني بأهالي تربه , وما غمرونا به من أريحية وكرم خففا عنا كثيراً من معاناة البحث؟
في عام 1967م كان في تربه مركز صحي واحد يعمل فيه طبيب وثلاثة فنيين صحيين . وكانت المشاكل الصحية يومها مختلفة عما نراه اليوم . أغلبها أمراض متنقلة , ترجع في معظمها الى تدني مستوى المعيشة وسوء التغذية وانعدام الوعي الصحي . وكانت الإمكانات في تربة محدودة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى . ما زلت أذكر كيف كنت أبحث عن خريطة لتربة تريني مواقع القرى والهجر على امتداد وادي تربة فلم أجد . وكان أن جلست الى بعض شيوخ تربة أسألهم عن تربة ويجيبون , وما انتهت الجلسة الا وأمامنا رسم كروكي يوضح معالم تربة ( الشكل 3)
توضع هنا خريطة تربة كما رسمتها في عام 1967
. لا أريد أن أستطرد فالذكريات كثيرة , ولمن شاء أن يعرف المزيد عن كيف كانت تربة يومذاك يستطيع أن يعود الى ما كتبته عنها في كتابي " أيام من حياتي "
سنترك جانبا تربه في عام 1967 فقد بعد العهد بها. ولنركز حديثنا عن تربه في عام 1981م يوم أن عدت اليها لبضعة أيام من أجل أن أكتب فصلا في كتابي " صحة الأسرة .. دراسة عن الصحة في تربة " . لم أكن أتوقع التغيير الذي شاهدته. هذه ليست تربه التي عرفتها قبل 14 عاما. قرية السوق تحولت إلى مدينة صغيرة. بيوت الطين حلت محلها مبان حديثة من الأسمنت المسلح وتضاعف عد دها مرات عن ذى قبل، الأزقة الضيقة الترابية تحولت إلى شوارع معبدة , والدكاكين العشر المتناثرة تطورت إلى سوق حديثة. انتشرت الكهرباء والتلفون. أما التلفزيون فقد كاد أن يكون من معالم كل بيت.
لمس التغيير "الهجر" فيما لمس، اتسعت مساحاتها واتصلت ببعضها البعض بطرق معبدة وأصبحت أقرب إلى القرى الصغيرة منها إلى الهجر. وتحولت أكثر بيوت الطين والعشاش فيها إلى بيوت من الأسمنت المسلح. أما التغير الذي يثير الدهشة حقاً فهو ما طرأ على البادية، فالأسرة البدوية بالرغم من أنها ما زالت تسكن في بيت من الشعر إلا أن نصيبها من الغزو الحضاري لم يكن بالهين أو اليسير، فالمرأة أصبحت تستعمل موقد البوتاغاز في إعداد الطعام، وأصبح بيت الشعر لا يخلو من سيارة "وانيت" تقف بجانبه، والبدوية تكاد تكون المرأة الوحيدة التي تسوق السيارة في بلادنا! أصبح البدوي لا ينتقل إلى حيث الماء وإنما يحضره بسيارته إلى حيث يقيم، كما أصبح يحمل أغنامه إلى السوق في شاحنة "مرسيدس بنز"، وهو في كل هذا أضحى أقرب إلى الاستقرار منه إلى الارتحال، أصبح يجمع بين الحسنيين: رومانسية البادية، ورفاهية الحاضرة.
تضاعف دخل الأسرة في تربة عدة مرات في خلال السنوات العشر الأخيرة وأصبح للأسرة عدة مصادر للدخل من بينها الزراعة والتجارة والعمل الوظيفي والرعي بالإضافة إلى الضمان الاجتماعي، وفي الوقت نفسه أسهم بنك التنمية العقاري في دفع عجلة النمو والتطور، ففي خلال بضع سنوات شيد في تربة أكثر من 2500 بيتاً من الأسمنت المسلح ومن المتوقع أن يشاد مثلها في خلال السنتين القادمتين.
عوامل أخرى أسهمت أيضاً في النمو الاقتصادي في تربة:
منها تزفيت الطريق بين تربة والطائف، ودخول الكهرباء والتليفون إلى السوق، وهطول الأمطار في السنتين الأخيرتين بعد جفاف أمتد لسنوات طويلة. ومع النمو الاقتصادي نما التعليم، فبعد أن كان هناك أربع مدارس للأولاد ومدرسة واحدة للبنات في عام 1967 ه أصبح يوجد 17 مدرسة للأولاد وثلاث مدارس للبنات وأخرى غيرها تحت الإنشاء.
لمس التغيير فيما لمس أسلوب المعيشة والغذاء، فمع أن الأرز والخبز مازالا هما الغذاء الأساس إلا أن العائلة أصبحت قادرة على شراء اللحم أكثر من مرة في الأسبوع بعد أن كانت تشتريه مرة أو مرتين في الشهر قبل عشر سنوات، ما أدراك ما اللحم؟ إنه إكسير الحياة .. يعطى القوة والحيوية الدافقة !! "لولا اللحم كان العرب كلهم مرضانين"، هذا ما يقوله شيوخ تربه. أما البيض والدواجن والخضروات ، فبالرغم من وجودها في الأسواق إلا أنها غير مألوفة بعد وما زالت قيمتها الغذائية مجهولة !
السؤال الذي يطرح نفسه. إلى أى مدى أسهم المركز الصحي في تطوير الوضع الصحي لسكان تربة في فترة الخمس عشرة سنة الأخيرة ؟
من الواضح للعيان أن تحسناً ملموسا طرأ على مستوى الصحة العامة في تربة. هذا التحسن يرجع في تقديري إلى التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي تسارعت خطاه في تربه شأنها شأن بقية مدن وقرى المملكة نتيجة للطفرة الاقتصادية التي حدثت في المملكة في منتصف السبعينات الميلادية , أكثر مما هو نتيجة للرعاية الصحية . فبالرغم من أن الرعاية الصحية تضاعفت في حجمها عن ذى قبل, إلا أن نشاط المراكز الصحية في عام 1981 مازال كما كان في عام 1967 يكاد يقتصر على صرف العلاج للمرضى الذين يرتادونها. أما الوقاية والتطوير ومشاركة المجتمع وإصحاح البيئة والتثقيف الصحي فحظها محدود إن وجد. الفرق الوحيد يكاد يكون في التطعيم ضد أمراض الطفولة. فقد زادت نسبة الأطفال المطعمين ضد الأمراض بشكل ملحوظ والفضل في هذا يرجع إلى قرار الدولة بأن لا يسجل الطفل في المدرسة إلا إذا تلقى التطعيم ضد أمراض الطفولة.
فيما يلي سوف استعرض خدمات المركز الصحي في مدينة تربة ( السوق ) في عام 1981 بشقيها العلاجي والوقائي.
وأنا هنا حريص على أن أناقش الأمر بما تتطلبه الأمانة العلمية، وإلا فلن يكون لدينا فرصة للإصلاح.
(أ‌) الخدمات العلاجية :
في عام 1981 بلغ عدد سكان تربة نحواً من 40.000 نسمة، (أعداد السكان تقديرية وليست مبنية على إحصاء دقيق) تتوفر لهم الرعاية الصحية من خلال ثلاثة مراكز صحية يعمل فيها مجتمعة خمسة أطباء عامين وطبيب أسنان و16 مساعداً صحياً، أي بمعدل طبيب بشري واحد لكل 9000 نسمة، وطبيب أسنان لكل 45.000 نسمة (مقارنة بالمعدل في المملكة آنذاك طبيب بشري لكل 1450 نسمة، وطبيب أسنان لكل 26.000 نسمة)، ومن بين 22 شخصاً يعملون في المراكز الصحية الثلاثة يوجد 4 سعوديين فقط.
زار المركز الصحي في مدينة تربة خلال أسبوع 1787 مريضاً أي بمعدل 325 مريضاً في اليوم (108 مريض للطبيب الواحد).
حسبنا الوقت الذي يمضيه الطبيب في فحص وعلاج المريض الواحد، فوجدناه دقيقة وثانية في المتوسط. في هذه الفترة القصيرة يسمع الطبيب شكوى المريض ويضع يده على رسغه، وقد يضع السماعة على صدره، ويسجل في دفتر أمامه أسم المريض وسنه وتشخيص المرض، ثم يسطر على ورقة أمامه العلاج ويعطى الوصفة للمريض.
لم نر مريضاً يفحص فحصاً كافياً، إذ لا يوجد في غرفة الطبيب سرير للكشف، أو جهاز لقياس الضغط أو ترمومتر لقياس الحرارة! يستعين الطبيب في عمله ببعض الفحوصات المعملية والإشعاعية إلا أن الإمكانات الموجودة لا تستعمل بقدر كاف، فمن بين 325 مريضاً يرتادون المركز الصحي في اليوم الواحد، يفحص منهم معملياً 8 مرضى وإشعاعياً 12 مريضاً فقط.
يعتمد الطبيب في تشخيصه للمرضى على انطباعاته، فهو كما رأينا لا يملك من الوقت ولا من أدوات الفحص الطبي أو المعملي أو الإشعاعي ما يمكنه من الوصول إلى تشخيص مبنى على أسس علمية، والطبيب يسجل التشخيص الذي وصل إليه تبعاً للعضو المصاب في الجسم. وهي طريقة غير علمية لا تساعد على التعرف على طبيعة الأمراض في المنطقة.
تشكل الفيتامينات والمسكنات والمضادات الحيوية معاً حوالي 74% من مجموع الدواء الذي يصرف، وهو أمر ليس له مبرر علمي. كما نجد أن الأدوية ذات التأثير العام مثل مستخلصات الكورتيزون والهرمونات ( وأغلبها هرمون التستسترون يصرف للرجال المسنين لإعطائهم مزيداً من الحيوية!!) تصرف أكثر مما تصرف الأدوية المتخصصة مثل الأدوية المضادة للبول السكري وارتفاع الضغط. أما المضادات الحيوية مثل البنسلين وأبناء عمومته فتعطى للمرضى في كثير من الأحيان دون مبرر علمي وفي جرعات صغيرة لا تكفي لعلاج المريض، بل قد تؤدي إلى إكساب الجراثيم نوعاً من المقاومة.
أكثر المرضى يفضلون الحقن على غيرها من أصناف الدواء. فهي في تقديرهم "تذهب مباشرة إلى الدم" ويأتي في المرتبة الأولى منها الحقن الملونة وحقن الكالسيوم التي تعطى إحساساً بالدفء. والطبيب لا يستطيع أن يرفض دائماً طلب المريض وإلا تعرض لعدم رضاء الجمهور.
يعالج طبيب الأسنان في المتوسط 17 مريضاً في اليوم، وعلى مدى أسبوع تردد على المركز الصحي 94 مريضاً يشكون من أسنانهم، وانتهى الأمر ب 62 منهم (66 % ) إلى خلع أسنانهم !!
(أ‌) الخدمات الوقائية :
النشاطات الوقائية (مثل رعاية الأمومة والطفولة والاكتشاف المبكر للأمراض والتثقيف الصحي وإصحاح البيئة وبرامج التغذية ومكافحة الأمراض المتنقلة) تؤدي من خلال المركز الصحي على شكل خدمات متفرقة وليست على هيئة برامج متكاملة.
فإذا ما أخذنا موضوع تطعيم الأطفال، على سبيل المثال، نجد أن معدل الولادة في مجتمع نام – كتربة- يقدر ب 45 حالة ولادة في السنة لكل 1000 نسمة أي 2025 ولادة تقريباً في السنة. ولما كان المركز الصحي هو الجهة الأساسية، إن لم تكن الوحيدة التي تصدر شهادات الميلاد لأطفال تربة، فان سجلاته تضع أيدينا على المشكلة، فمن بين 2025 طفلا ولدوا – تقديراً – في تربه في عام 1400ه، صدرت فقط 640 شهادة ميلاد، وحصل 258 طفلاً فقط على الجرعات الوقائية للقاحي الشلل والثلاثي كاملة أي 12.7% فقط من مجموع من ولدوا في تربة خلال العام. وقي تقدير منظمة الصحة العالمية أن 80% على الأقل من الأطفال الرضع في أي مجتمع يجب أن يكونوا مطعمين ضد الأمراض.
وإذا ما استعرضنا الرعاية الطبية للأمهات الحوامل، نجد أنه من بين 2025 سيدة حملت في تربة خلال العام – تقديراً- زارت المركز الصحي منهن 208 سيدات فقط (10%) فحصتهن الطبيبة ووصفت لهن علاجاً ولكنهم لم يعطين رعاية متكاملة (علاجية ووقائية)، وقامت الممرضة بالإشراف على 279 حالة وضع في المنازل، أي 14% فقط من مجموع الولادات.
نظام وزارة الصحة لا يسمح للطبيب بزيارة المنازل، خشية الاستغلال المادي، هذا النظام مع ما فيه من رغبة صادقة في الإصلاح، إلا أنه يحرم الطبيب ومساعديه من الاتصال بالأسرة، ويحول بين المركز وبين أن يخرج بخدماته إلى المجتمع والبيئة.
الرعاية الصحية لأطفال المدارس مسئولية الصحة المدرسية والتي تتبع وزارة المعارف. وفي تربة كلها طبيب واحد مسئول عن الرعاية الصحية لنحو 2000 تلميذ في 17 مدرسة. يقوم الطبيب في كل عام بزيارة واحدة أو اثنتين فقط لكل مدرسة!
خلاصة القول .. النشاطات التي يقوم بها المركز الصحي قاصرة على الخدمات العلاجية دون الوقائية. وحتى بالنسبة للخدمات العلاجية فهي لا تعدو الفحص العاجل للمريض وصرف الدواء له. فالطبيب يبذل من وقته حول دقيقة وثانية لكل مريض. ومن البدهى أن هذه الفترة لا تكفي للوصول إلى التشخيص السليم، أو إعطاء العلاج المناسب، وبالرغم من الإمكانات المتاحة فإن وسائل التشخيص الموجودة كالمختبر أو الأشعة لا تستغل بقدر كاف- كما أن 66% من مرضى الأسنان تخلع أسنانهم المصابة ولا وقت للعلاج أو الوقاية.
وبعملية حسابية بسيطة، نجد أن الأطباء الأربعة ومعاونيهم لديهم من الوقت الفائض ما يمكنهم - لو أرادوا وأراد النظام - أن يستفيدوا منه في القيام بنشاطات صحية متعددة تهدف إلى رفع المستوى الصحي في المجتمع، بما في ذلك نشر الوعي الصحي ورعاية الأمومة ومكافحة الأمراض المتنقلة، هذا بالإضافة إلى بعث روح المشاركة في المشاريع الصحية بين الأهالي.
ويبقى السؤال الرئيسي قائماً: لماذا لا تستغل إمكانيات المركز الصحي- البشرية والمادية- في إعطاء الرعاية الصحية الشاملة بشقيها (العلاجي والوقائي) بدلاً من الاكتفاء بصرف الدواء للمرضى؟ لعل هناك أكثر من إجابة على السؤال:
أولاً: ثقافة المجتمع:
يوجد دائماً فرق بين ما يطلبه الناس من جوانب الرعاية الصحية وما يحتاجونه فعلاً. في مجتمع نام مثل مجتمع تربه نجد أن متطلبات السكان من الخدمات الصحية بسيطة لا تعدو توفر الطبيب والأدوية وقد يطلب البعض منهم مستشفى أو جهازاً للأشعة، في حين أن حاجتهم الحقيقية- إلى جانب الطبيب والأدوية والمستشفى- تشمل توافر مصادر نقيه للمياه، وبرامج رعاية الأمومة والطفولة، والتثقيف الصحي، وإصحاح البيئة، وتطعيم الأطفال .. الخ. وكلما تقدم المجتمع ثقافة ووعياً، كما هو الحال في أوربا وأمريكا الشمالية، كلما ضاقت الفجوة بين ما يطلبه الناس وما يحتاجونه إليه فعلاً .
في المجتمع النامي لا يتوقع الأهالي عادة من الطبيب أن يقضى وقتاً طويلاً في الفحص الإكلينيكي وما يصاحبه من فحوصات معملية، ولربما فضلوا في الطبيب السرعة وعدُوها من فضائله ودلائل براعته.
حدثني من أثق فيه فقال- وفي نبرة صوته إعجاب- في الهند أطباء يستطيعون أن يشخصوا علة المريض بمجرد أن يجس أحدهم نبض المريض أو ينظر في عينيه. ومن بين من عرفت من الأطباء، طبيب يفحص في عيادته الخاصة نحوا من 200 مريض في اليوم الواحد وهو لا يزيد فيما يفعل على أن يفحص مريضه في عجالة وينتقل من مريض إلى مريض في دقائق، ومع هذا فقد طبقت شهرته آفاق المدينة وتعدتها.
المرضى في تربه- كما أسلفت- يتوقعون من الطبيب أن يعطيهم حقناً حتى تذهب بالدواء مباشرة إلى الدم. وقبل أعوام عندما كان الطبيب حديث عهد بالمركز كان يقاوم إعطاء الحقن إلا للضرورة، ولكنه ما لبث أن رضخ لضغط الأهالي وأصبح يصرف الحقن حسب الطلب بعد أن لاحظ أن المرضى تحولوا عنه إلى ممرض كان يحتفظ في بيته بمجموعة من الحقن يصرفها لمن يطلبها بمقابل !!
الناس في المناطق الريفية- ما عدا القلة الواعية- لا يتوقعون من الطبيب أن يقوم بأية برامج وقائية، وأذكر طبيباً في إحدى المناطق الريفية، عاش يعمل في المركز الصحي عشر سنوات، لم يقم خلالها بإعطاء أي لقاحات للأطفال- دعك من بقية البرامج الصحية الوقائية- وعندما أرادت مديرية الشئون الصحية نقله للعمل في إحدى المدن، كان أهالي القرية أول من عارض في نقله .. فقد عاش بينهم يستجيب لطلباتهم فيرضيهم وإن لم يتصدَ لاحتياجاتهم الحقيقية !
ثانياً : أولويات المسئولين:
يتوقع المسئولون من الطبيب أن تكون علاقاته حسنة مع الناس، فالمملكة- والحمد لله- بلد تتصل الرعية فيه بولي الأمر مباشرة ودون ما حجاب، وإذا ما شعر إنسان بأن طلباته لم يستجب لها فما أسهل أن يرفع أمره عبر الصحف. ومن هنا كان إرضاء الناس واجتناب الشكوى أحد المحاور الأساسية في الإدارة الصحية، ليس في بلادنا فحسب وإنما في كثير من الأمم.
والإدارة الصحية لا تتوقع من الطبيب أن يقوم بزيارة المنازل، بل هي لا تريده أن يفعل خشية أن يستغل هذه الزيارات في الحصول على مقابل مادي لعمله. والإدارة لها عذرها من جهة ولكن هذا المنع من جهة أخرى يحجب عن الطبيب وفريقه الصحي فرصة الاتصال الحقيقي بالمجتمع. وكثيراً ما تسأل الطبيب عن غذاء الأسرة في المجتمع الذي يعيش بين ظهراني أهله أو عن مرض من الأمراض له علاقة بالعادات والتقاليد فتجده لا يعرف، وبالتالي فإن ممارسته للتطوير الصحي والوقاية من الأمراض محدودة.
ثالثاً : الأطباء .. وتطوير الصحة العامة :
توقعات الطبيب من المجتمع والناس ومن العاملين معه بل وقل من نفسه، تشكل عاملاً أساسياً في تحديد مهمته وطبيعة عمله. الطبيب في العادة يرى في نفسه ( دكتوراً ) مهمته أن يشخص المرض ويكتب العلاج لمن أتاه يسعى إليه من المرضى. وهو اتجاه هيأته له دراسته الطبية . فقد عاش يتعلم ويتدرب في فصول الكلية وداخل جدران المستشفى، ولم تتح له فرصة كافية ليتعرف على أسباب المرض الحقيقية التي تكمن جذورها في البيئة والمجتمع. نظرة الطبيب إلى دوره لا تعدو التشخيص والعلاج، ودراساته الطبية – كما هو الحال في أغلب كليات الطب - أمدَته ولا شك ببعض المعلومات عن الوقاية والتطوير الصحي، ولكنها لم تورثه معرفة كافيه بعوامل المرض الكامنة في البيئة والمجتمع، ولم تعطه الدربة الكافية للتصدي لهذه العوامل في مظانها واستئصالها من جذورها، بأن يتناولها بالوقاية قبل العلاج , وباكتشاف بوادر المرض قبل أن يصل إلى مضاعفاته , وبالعلاج المبكر قبل العلاج المتأخر.
النتيجة هي أن إسهام المركز الصحي في تطوير الوضع الصحي في تربة إسهام محدود. والرعاية الصحية التي كانت تقدم في عام 1981 لا تكاد تختلف في جوهرها عن الرعاية الصحية التي كانت تقدم لهم قبل 14 عاماً في عام 1967م. أما التقدم الملحوظ في مستوى الصحة العام في تربة فيرجع الى التطور الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي الذي بدت ملامحه ظاهرة في تربة.
تربه في الحاضر (2010م) :
في صيف 2010 اتصلت بصديقي معالي الدكتور راشد الراجح من أشراف تربه لأنسق معه لزيارة قصيرة أخطط للقيام بها الى تربة لأكتب عنها فصلا في كتابي هذا الذي بين يديك . ومن خلاله تواصلت مع الأخ عبد الله محمد الشريف من منسوبي إدارة التعليم في تربه, والذي زودني ببعض المعلومات الأساسية عن الصحة والتعليم في تربه.
غادرت مكة بالسيارة إلى تربه بصحبة الدكتور محمد عبد الله الشريف استشاري طب الأسرة .
يا لفعل الزمن وما يتركه من آثار في الأماكن والبشر. المكان الوحيد الذي استطعت أن أتعرف عليه في مدينة تربه كان مركز التنمية الاجتماعية الذي عشت فيه ردحاً من الزمن.
جاشت نفسي بالذكريات وأنا أتنقل بين أرجائه. هنا كان مكتبي ومختبري وغرفة الفحص الطبي. وفي الدور الأعلى الصالة التي كانت لي ولأسرتي مقاماً. وأمامها يمتد سطح كنت أقطعه في أوقات الأصيل كل يوم ذهاباً وإياباً أحتضن آمالي وأحلامي. أما تربه التي عهدتها قرية صغيرة ببيوتها المتناثرة وشوارعها الترابية الضيقة, تحف بها وتتخللها المزارع , فقد تحولت إلى مدينة تعج بالحركة وتتطاول فيها البنايات وتتقاطر في شوارعها المزفته السيارات.
ثلاثة وأربعون عاماً مرت ما بين عام 1967 وعام 2010 تغيرت فيها معالم تربه. تحولت قرية السوق وما حولها من قرى وهجر ومضارب للبادية الى محافظة تتوسطها مدينة تربه , مدرستي البنين والبنات التي كان يؤمها بضعة محدودة من التلاميذ غدت في أقل من نصف قرن 69 مدرسة. الرعاية الصحية التي كان يقدمها مركز صحي وحيد يعمل فيه طبيب وممرضة أصبح يقدمها مستشفى به 50 سريراً ويعمل فيه 38 طبيباً ويحيط به ثمانية مراكز صحية يعمل فيها 14 طبيباً وطبيبة بالاضافة الى طبيبي أسنان و 25 فنيا صحيا.
هذه الأرقام تدل على ما حققته تربه من تقدم في الخدمات التعليمية والصحية عبر نصف قرن، وتعكس ما حققته المملكة من انجازات. بقى سؤال واحد يلح على خاطري .. إلى أي مدى أسهمت مراكز الرعاية الصحية الأولية بما حوت من أطباء وفنيين في الارتفاع بالمستوى الصحي لأهالي تربه. وكان على أن أجيب على هذا السؤال خلال هذه الزيارة القصيرة .
بدأت بزيارة محافظ تربه الأستاذ مهدي محمد العيافي. حدثته عن أملي في أن ينشأ في تربه مركز لأبحاث الرعاية الصحية , وأن تصبح تربه نموذجاً يحتذى في الرعاية الصحية الأولية. تمنى لي التوفيق وهو يودعني. ومن ثم أخذت طريقي إلى المركز الصحي الإشرافي في تربه.
يقع المركز في وسط مدينة تربه ويعمل به أربعة أطباء وطبيبا أسنان وتسعة عشر ممرضة وممرضا وفنيا صحيا . للمركز مهمتان أولاهما تقديم الرعاية الصحية الأولية لسكان مدينة تربه وعددهم نحو 24 ألف نسمه، والثانية توفير الدعم والمساندة لسبعة مراكز صحية فرعية تنتشر في بقية محافظة تربه ولذا سمي المركز الصحي الإشرافي.
حرصت على أن أراقب الطبيب في المركز الصحي الإشرافي وهو يستقبل مرضاه. لم يستغرق فحص المريض وكتابة وصفة الدواء أكثر من دقيقة ونصف في المتوسط .. لا يوجد أي نشاط للستة أطباء وأطباء الأسنان و19 ممرض وممرضه وفني صحي خارج جدران المركز الصحي. لا يوجد جهاز أشعة ولم أعثر على جهاز لقياس ضغط الدم في عيادة الطبيب.
متوسط عدد زوار المركز 275 مريضاً في اليوم أي أن كل طبيب من الأطباء الأربعة يفحص ويعالج حوالي 70 مريضاً في اليوم. يستغرق فحصهم ووصف الدواء لهم ساعتين أو حتى ثلاث ساعات يومياً ( باعتبار دقيقة ونصف للمريض ) , ويظل هناك نحو خمس ساعات من وقت كل طبيب من الأربعة أطباء ووقت كل ممرض وممرضه وفني صحي من التسعة عشر، كان بالإمكان أن تستغل في تطوير الصحة العامة في مجتمع تربه.
في مجتمع نام مثل تربه معدل الولادات عادةً 45 ولادة لكل 1000 من السكان، أي أننا نتوقع أن تكون قد تمت حوالي 1080ولادة في العام في مدينة تربه. فإذا ما عدنا إلى السجلات الطبية بالمركز وجدنا أن عدد الأمهات المسجلات 432 أم. وإن قيل لي أن بعض الولادات تتم في المستشفى أو خارج محافظة تربة.
تقدم أحدى الممرضات برنامجاً للتثقيف الصحي لبنات المدارس بمعدل ثلاث محاضرات شهرياً .. تقرؤها من ورقة !! لم أعثر في المركز على وسائل للتثقيف الصحي مثل الكمبيوتر المحمول أو جهاز للعرض أو وسائل للإيضاح. اللهم إلا بضع كتيبات ونشرات وصلتهم من الطائف.
النتيجة التي خلصت بها من زيارتي للمركز الصحي في تربة هي أن الإمكانات البشرية الموجودة في المركز, لو أنها كانت مدربة ومهيأة فإنها تكفي وتزيد لكي يتحول المركز الصحي من مجرد مركز يصرف الدواء لمراجعيه من المرضى إلى مركز صحي نشط يسهم في نشر الوعي الصحي وإصحاح البيئة والاكتشاف المبكر للأمراض وإعطاء برامج التغذية وتطوير الصحة المدرسية.
لا يمكن أن نطالب العاملين في المركز بهذه النشاطات لأكثر من سبب. أولها أنه ينقصهم وضوح الهدف. وثانيها يعوزهم التدريب , وثالثها لا توجد خطة واضحة المعالم مطالبون بتنفيذها ومسئولون عنها. إذن من المسئول عن تفعيل الإمكانات البشرية والمادية الموجودة في المركز الصحي الإشرافي؟
هل هي محافظة تربه؟ أم مديرية الشئون الصحية بمكة؟ أم هي وزارة الصحة ؟ أم هم الثلاثة مجتمعون ؟
أكرمني الأستاذ عبد الله الشريف فأولم لي وليمة تجلى فيها الكرم العربي الأصيل، وحضرها مجموعة من وجهاء تربه ومسئولي الدوائر الحكومية فيها. دار الحديث بيننا عن مستقبل الرعاية الصحية في تربه وكيف أنها بالإمكانات التي فيها إذا ما أحسن الاستفادة منها يمكن أن تصبح نموذجاً يحتذى.
اقترحت عليهم أن يشارك أفراد المجتمع في تطوير الخدمات الصحية في تربه , وعلى وجه الخصوص بدعم برنامج للتثقيف الصحي . أبدوا استعدادهم وترحيبهم. والأمل كبير في أن نرى هذه الآمال تتحول قريبا إلى واقع عملي ملموس.
تربه في المستقبل : (2035م)
كيف يمكن أن تكون الرعاية الصحية في تربه بعد 25 سنه من اليوم أي في عام 2035 ؟
في يقيني أني أستطيع أن أرسم الصورة التي أريدها وكلي ثقة بأني لن أجد من سيحاسبني . أولاً لن أكون – على ما أعتقد- موجوداً يومها. وثانياُ من سيذكر كلامي هذا ؟ في الغالب سيكون قد طواه النسيان. وعليه فسوف آخذ حريتي في الحديث .
بعد 25 سنة سوف يتضاعف عدد سكان تربه إذا أستمر النمو الطبيعي كما هو (2.8% تقديراً) أي سيصبح عدد السكان حوالي 100.000 نسمة إلا إذا تدخلت عوامل تؤدي للهجرة من تربه أو إليها. سيزداد حجم مدينة تربه وسيتضاعف عدد سكانها , وفي الوقت نفسه سوف يتقلص عدد سكان القرى والهجر، كما سيطوى آخر بدوي يجوب وادي تربه خيمته.
وكنتيجة حتمية للارتفاع المتوقع في مستوى المعيشة سوف ينخفض معدل الوفيات بين الأطفال ويزداد معدل الأعمار, وبالتالي ستزداد نسبة كبار السن، ومن ثم سيقترب شكل الهرم السكاني من الشكل المعروف في المجتمعات الصناعية ، كما سيزداد عدد المتعلمين وحملة الشهادات الجامعية بازدياد عدد المدارس وإنشاء كليات المجتمع والكليات الجامعية.
سوف تتغير خارطة الأمراض فتزداد معدلات الإصابة بالأمراض المزمنة مثل السكري وضغط الدم وأمراض الشيخوخة والقلب والسمنة والتوتر والقلق وحوادث السيارات، وفي المقابل سوف تقل معدلات الإصابة بالإمراض المتنقلة والمعدية. وتبعاً لانتشار التعليم والوعي سوف يزداد الطلب على الرعاية الصحية. كما ستضيق الفجوة بين طلبات الناس واحتياجاتهم.
سوف تزداد تكلفة الرعاية الصحية لعدة عوامل يأتي على رأسها التطور المتسارع في التقنيات الطبية بما تحمله من تكلفة عالية . كما سيزداد وعي الناس وإدراكهم بأهمية الرعاية الصحية الأولية والرعاية المنزلية والطب الاتصالي. وبالرغم من هذا فلن يقل معدل الطلب على خدمات المستشفى ولكن سوف يتغير نمط الرعاية فيه. سيقل عدد أيام التنويم، وتتحول العمليات الجراحية التقليدية إلى جراحة المناظير وجراحة اليوم الواحد، وسوف تسهم تقنيات الهندسة الوراثية وزيادة معلوماتنا عن خريطة الجينات في حل بعض المشاكل الصحية ولكن ستحل غيرها مما لا يعلمه إلا الله.
سوف يتمكن الطبيب الجراح وهو في جدة أو في لندن من إجراء العملية الجراحية على مريضه المنوم في مستشفى تربه، ويصف له دواءه ويتابع حالته المرضية بالصوت والصورة ذات الأبعاد الثلاثة وهو في الطرف الأخر من الكرة الأرضية. هذا إن كان لها طرف.
كل هذه التغيرات المتوقعة سوف تتطلب أنماطاً من الرعاية الصحية تختلف عن الأنماط التقليدية التي نراها اليوم مما يعنى حتمية التخطيط المسبق لمواجهة هذه التغيرات المتوقعة. أما لو تركت الأمور للزمن فقد نجد أنفسنا يومها نقدم نفس الخدمات الصحية التي نقدمها اليوم وبنفس الأسلوب. والشاهد على ذلك التجربة التي مررنا بها في الأعوام الماضية.
فبالرغم من الزيادة الكبيرة في حجم الخدمات الصحية التي حدثت خلال الخمس وأربعين سنة التي مضت (1967 – 2010) ما زال الطبيب يفحص المريض ويكتب له علاجه في دقيقة ونصف , وما زالت خدمات المراكز الصحية قاصرة على صرف الدواء للمرضى المراجعين بدون أن يكون لها إسهام يذكر في تطوير الوضع الصحي. وإذا كنا نتوقع أن تتغير خريطة الأمراض في المنطقة، وتتغير التركيبة السكانية فيها، ويتغير نمط الطلب على الرعاية الصحية ونمط تقديمها , فمن الواجب أن نواجه هذه التغيرات مسبقاً بأسلوب علمي. ولن يكون ذلك إلا بأن نضع أهدافاً بعيدة المدى. وأن نسأل أنفسنا بأذهان متفتحة ..
كيف يمكننا أن نواجه تحديات المستقبل؟ الإجابة على السؤال تقتضي أن نولي البحث الطبي التطبيقي أهمية قصوى. وأن نكون على استعداد لأن نجرب أكثر من طريقة وأكثر من أسلوب. وأن نتقبل احتمال الفشل والنجاح. وأن نتعلم من تجاربنا.
أما الاقتراح الذي أطرحه فهو أن ينشأ في تربه مركز لبحوث الرعاية الصحية. وأن نسعى لأن تكون الرعاية الصحية في تربه نموذجاَ يحتذى في بقية أنحاء المملكة.
أما لماذا تربه؟ فلأ كثر من سبب. منها أنه سبق أن أجريت فيها دراسة علمية موثقة. كما أن أهلها
-كما لمست- مستعدون للتعاون في مثل هذا المشروع . أضف الى ذلك أن محافظة تربة محدودة من حيث المساحة وعدد السكان، وتجمع بين المدينة الصغيرة والقرى من حولها ، وفيها مقومات الرعاية الصحية من مستشفى و مراكز صحية ، ويجاورها غير بعيد عنها ثلاث كليات طبية في جدة ومكة والطائف. ولو أننا اقترحنا مكانا آخر غير تربة , ما عدمنا أن يعترض عليه معترض ليقول لماذا هنا وليس هناك ؟ وعليه فلنبدأ وعلى بركة الله.
---------------------------------------
* زهير أحمد السباعي. أيام من حياتي. مكتبة العبيكان 2003
* زهير أحمد السباعي . صحة الأسرة: دراسة عن الصحة في تربه البقوم. الكتاب العربي السعودي. تهامة 1983
*هذا الفصل مستخلص من كتابي "صحة الأسرة دراسة عن الصحة في تربة البقوم" و "أيام من حياتي"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.