أن تكون وزيرًا للثقافة.. ماذا تعني هذه الجملة التي تبدو بسيطة في مجملها..؟ للإجابة على هذا السؤال سيأخذك تفكيرك إلى جهات شتى ومواقف شتى وتاريخ طويل، يبدأ من تفسير مصطلح لم يحظ حتى الآن بتفسير قاطع.. مصطلح سيقودك إلى متاهات عديدة، رغم أهمية ما اتفقنا على أن نطلق عليه «الثقافة» في بناء وصقل الإبداع. فالموهبة المبدعة التي تحيط بما حولها من مظاهر الوجود، وتملك القدرة على التعبير عنها، والتي تبدع كما يقول (راسين) الشاعر الفرنسي: «شيء من لا شيء» إنما صقلتها الثقافة والتجربة الإنسانية التي يحتضنها وجدان المبدع، وانصهرت في شخصيته انصهارا كاملا، حتى أصبحت جزءا هاما من مكونات تلك الشخصية، وعنصرا رئيسا من عناصر الإبداع فيها. فقدرة المبدع على الإبداع، إنما هي نتاج التضافر والتلاحم والانصهار التام بين الموهبة والثقافة، فالثقافة هي التي تأخذ بالفنان أو الأديب من داخل الذات الضيقة إلى رحابة الإنسانية؛ كي يغوص بداخلها فاحصا ومتلمسا أغوارها، فتهبه قدر ما يصل إليه فكره ومعاناته؛ ليفيض منه إبداع غني ومتعمق يخرج به عن دائرة الوصف التسطيحي، الذي قد لمسناه من خلال بعض النصوص الأدبية شعرا أو نثرا، أو الروايات التي أضحت سيلا كبيرا ومرتعا سهلا لكل من يريد أن يكون روائيا وفق مصطلح خاص به، والتي قد مرت بنا ووجدناها لم تتعد دائرة وصف الأشياء والتغني بجمالها الظاهري. تلك التجارب لم تغنها الثقافة، فلم ترتق بمحاولاتها إلى خارج أسوار الحواس، كي تتلمس المطلق في محاولة المعانقة، فطغت عليها ذاتيتها وخصوصيتها. ومن هنا نستطيع أن نلمس الفارق بين شاعر وشاعر وأديب وأديب، حين يتناولان موضوعا واحدا. فالانفعال الصادق، والقدرة على الانطلاق من الجزء إلى الكل، والتعمق في الرؤية، واكتشاف العلاقات التي تربط بين جزئيات التجربة، تلك هي سمات التجربة المثقفة التي تبدو في جوهرها عصرية. وهناك الكثير من التجارب المثقفة التي يمكن الاستشهاد بها من الآداب الأجنبية والعربية، من شكسبير في «هاملت» الذي عالج فيها مشكلة (الثأر) بتشكلاته النفسية، وبودليير في شعره عن غربة الإنسان وهمومه وأحزانه، والمعري في فلسفته للحزن والموت، وغيرها.. وغيرها. من هنا ندرك دور الثقافة وأهميتها للتجربة الإبداعية.. وندرك أهمية أن يتثقف المبدع. فإذا كانت الثقافة مهمة للفرد العادي، فما بالك بأهميتها بالنسبة للأديب أو الفنان الذي سيكون ضمير بلده؟. ويبقى سؤال الثقافة مشرعا، ولكنه في النهاية يعني فهم ما يدور حولي بوعي انطلاقا من الماضي بكل موروثاته ولكل أن يضيف أو يفسر. عبر هذه المقدمة الطويلة نتوقف عند.. أن تكون وزيرًا للثقافة.. أي أن تكون مسؤولا عمن هددهم جوبلز بمسدسه وما كشف جونسون سوءات بعضهم في كتابه.. وعن مصطلح يمكن للبعض أن يدعي الانتماء إليه.. أي أنك -وبعيدا عن المصطلح- تواجه من يتدثرون به إن حقا أو بهتانا.. أن تكون وزيرا للثقافة.. يعني أن تكون إدارياً ماهراً ودبلوماسياً محنكاً ومثقفاً بمعنى الكلمة (رغم الاختلاف حول مفهوم الثقافة).. ويعني أن تملك القدرة على إرضاء طموح وأهواء مجموعة من البشر، تتفاوت في التفكير والأهداف والرؤى والوسائل والمطالب والطموحات.. فأنت هنا المسؤول، ومن وراء كل ذلك المبدع والقادر على أن تسبغ على كل هؤلاء مساحة من الأمل في أنك تدرك وتعرف كل مثقف وكل من كتب سطرا أو كتابا ما. أن تبدي عشقك للثقافة والإبداع، وطموحك في النهوض بالعمل الثقافي وروح المبادرة التي تروض أطر البيروقراطية.. أن تتبنى العديد من المشاريع الثقافية، التي نرى آثارها بوضوح، لا تلك التي تتغنى بها الصحف ثم تتلاشى مع الزمن. أن تدرك -جيداً- أنك تسير على خيط رفيع، يتطلب قدراً كبيراً من المهارة والحنكة والخبرة والاتزان الفكري.. فأنت تعمل بين تيارات مختلفة ورؤى متعددة ومساحة واسعة من الأفكار.. ومجموعة متباينة من المثقفين.. وعالم يتغير كل لحظة، وعليك أن ترضي الجميع في إطار المتاح والمسموح، الذي قد لا يدركه البعض أحياناً، أو يتجاهله أو يطمح في تجاوزه دون تفكير في المعطيات والنتائج والوسائل.. أحياناً أخرى. يعني أن تكون ساحراً لتتفادى التأويل المفرط، والنقد المؤلم، والتملق الجارف والعواطف الوقتية.. والنزق الواضح لدى البعض.. يعني أن يعلو صوت الوطن؛ ليتمازج مع أصوات العالم المحيط به، وليعرف الجميع قدر ودور ومكانة هذا الوطن. إنه قدر يجب أن تدرك -جيدا- أبعاده؛ حتى تكون الصفحة مزدانة لا بالتملق ولكن بالتحقق.