في مقدمة هذا التناول، لا بد من تسجيل عديد من الحقائق المسلم بها التي تعز على الإنكار والتجاهل والمكابرة، وقد لا تقبل النقاش والجدل. منها: أن وراء كثير من منجزات مواسم الحج مجهودات واجتهادات مخلصة تقوم بها الجهات والإدارات المعنية، ومنها أن أي موسم مثل موسم الحج يجتمع فيه مثل هذا الحشد االبشري في زمان ومكان محددين لا مفر ولا مناص ولا محيد عن حدوث جملة من السلبيات والأخطاء والمخالفات مهما بلغ مستوى الاستعداد، ومهما كان حجم العمل وأداء المهمات، غير أن مثل هذه الحقائق المسلم بها لا تشكل عذراً أبدياً للجهات المعنية في عودة السلبيات والمخالفات في كل موسم.. مثلاً.. الحاج بدر بعد أن عاد بالسلامة من أداء نسكه، وضم والديه وقبّل رأسيهما. وأخذ ما احتاج إليه من السكينة، ألصق الأريكة تحت ضبنه، وجلل كوب الشاي برشفات الطمأنينة، وصار يتأمل فقرات حجه.. حمد الله على مايسر.. غير أنه لم يستطع أن يتخلص من إلحاح مسألتين أقلقتا مشاهد نسكه هما: الافتراش، الذي سبب كثيراً من الازدحام والعرقلة في الطرقات والساحات، وأوجد مناظر لا تليق بالنسك، والمسألة الأخرى التي أخرجت زفرة حرّى حزينة من صدره هي: النعم والمأكولات التي نثرت على الأرض لا فرق بينها وبين أي (زبالة) قذرة!!، وإذا كانت إشكالية الافتراش تعبر وتفصح عن أزمة سلوك وامتثال وتقدير واحترام فإن ظاهرة إلقاء النعم والمأكولات على الأرض أو - حتى - في الحاويات تكشف عن أزمة مرعبة في الالتزام والأخلاق وفي خشية المنعم وخوف زوال النعمة. وإذا كان الحاج بدر الذي انضم إلى إحدى حملات الحج، وألقى بتبعات المعيشة والسكن والمبيت وتطبيق شروط النسك وواجباته إلى المؤسسة التي اضطلعت بذلك مقابل مبلغ مُجْزٍ من المال، فإن الحاج (عادل) انضم إلى مجموعة من الشبان وانطلقوا بمركبتهم صوب المشاعر المقدسة، واضطلعوا بمهمات نسكهم التي كان في مقدمتها و- ربما - من أكثرها صعوبة أنهم قطعوا المسافات بين المشاعر راجلين. عانى الحاج عادل ورفاقه من الازدحام وبخاصة أثناء الطواف والسعي، وقاسوا من معضلة الافتراش، ولاحظوا كثيراً من السلبيات والتصرفات غير السليمة وجملة من الأخطاء التي يخشى منها على صحة نسك الحاج، على أن المعاناة التي ارتسمت بأحرف كبيرة في سجل النسك أنهم عندما يتضورون من المسغبة فإنهم كانوا يلوذون بأذيال الصبر؛ خوفاً مما يبعه البعض من المواد الغذائية والمأكولات والمشروبات التي لا يمكن أن يثقوا بزمانها ومكانها، وهم الآن يحمدون الله على السلامة والعافية. والآن.. بعد انتهاء موسم الحج، وعودة الحجيج وحتى الموسم المقبل، يداهمنا التساؤل الذي لا يغيب في كل عام: لماذا تعود السلبيات والأخطاء مرات عديدة إلى مناخ الحج، وسياق النسك، وساحات المشاعر؟!.. من العجائب والغرائب - مثلاً - ماورد في تقريرات ميدانية وإخبارية من أن ظاهرة الافتراش في موسم حج هذا العام أكثر بروزاً وحضوراً ووجوداً منها في العام الفائت!! ومع الإشارة مرة أخرى إلى الجهود المبذولة، وإلى الخطط والاستعدادات والعمل الدؤوب، تنبغي الإشارة كذلك إلى أن هناك خللاً ما يحدث بعد انتهاء الموسم مباشرة يتمثل فيما يشبه سبات تدخل فيه جهات معنية فلا تبدأ في الإعداد والاستعداد إلا عندما تهل تباشير رمضان الذي يذكر بما بعده من مهمات كبيرة تحتاج إلى جديد شديد قوي من التفكير والتخطيط والتنفيذ. العجيب فعلاً، والغريب حقاً أن السبات والبيات ليس - فقط - ديدن بعض الجهات المعنية بمهمات الحج، بعد كل موسم، وإنما لو فتشنا في كثير من الجهات والمصالح والإدارات لوجدنا الإشكالية ذاتها تحول بينها وبين آفاق النجاح وفضاءات التفوق.. والله المستعان.