نبدأ الموضوع بأبيات للشاعر حصيبان، يقول فيها: مل قلب هيضه حس (الهدّية) هجرعت بالصوت من عقب الشمالي ياذلول القرم حماي الرديه أصبري عقبه على سقم الليالي ذكرت با لحب من عينة شقيه ذاكرٍ في نجد خلان وغالي عقب فقده ما توالف للرعيه تطرده (ساره) على روس المفالي عزتي للقرم حطوا له بنيه عزتي للقرم من قبٍر هيالي عادتة بالكون يثني للرديه ينسم الحفيات ريف للهزالي ولكن لماذا قال الشاعر: حصيبان هذه الأبيات؟ وهل كانت لمجرد الرثاء لأحد تذكره في لحظة؟ إن هذه الأبيات كان لها مثير قوي، وهذا المثير كان له وقعه في نفس الشاعر أقوى من هاجسه الذاتي الذي مرده إلى التفكير في نفسه، وقد يكون أحدنا مع نفسه أخف هاجسا وحساً وشعورا مما يمكن أن يثيره حنين أو أنين غيره أو منظر ومشهد جرى في محيطه، ذلك لأنه في بعض الأحيان يغلب المؤثر الخارجي بقوته وعمق أثره إذا كان صادقاً على النفس وهمومها. نعم قد نتألم مما فينا حيناً وقد نتألم أكثر لألم غيرنا أو منه أحيانا كثيرة، وهذا واقع مشاهد في الحياة ومجرب. ومن هنا نستعرض المؤثر الذي كان وراء هذه الأبيات، ويتمثل في قصة تدور أحداثها على رجل يقال له: عبدالله، دوسري، ويلقب ب (الشمالي) وهنا لا نريد أن نتوقف عند هذا الاسم، وإن كان مهما بلا شك، لكن الذي تعنينا هي ناقته التي هي محور القصة وأحاسيسها هي المؤثرة. كان عند عبدالله ناقة (ذلول) سماها (الهديّة) ألفته وألفها عدد من السنين، ولعلها في مرعاها لا تكاد تفتقده، وفي مراحها تراه حولها، واسمها الذي سماها به مشتق من الهدوء والتذلل وحسن الانقياد لصاحبها والألفة المتميزة عن غيرها، فرغم أن في البهائم طبائع متباينة إلا إنها تملك قدرا مشتركاً من الحس والشعور بصاحبها ،أما سارة المذكورة في الأبيات فهي ابنة عبد الله، الذي تعنيه كل الأبيات والقصة بأكملها. إننا ننسى أو نتناسى كثيرا مشاعر الحيوان أو نتغافل عنها، ونعتقد أن الإنسان وحده هو الذي يملك الإحساس والشعور المرهف، لهذا لا يهتم كثيرون يما يعانيه الحيوان من فقد ولده أو وليفه أو رفقته أو مكانه. لقد أصيب عبدالله الشمالي بمرض الجدري، ما لازمه الفراش مدة طويلة وصلت إلى الشهرين، وفي أثناء هذه المدة كان ينام في بيت الشعر وفي مكان تستره عن العيون رواقات البيت وحجبه، ولكن الناقة لا ترد الماء طيلة هذه المدة إلا وتمر بجوار البيت وترفع الرواق وما يستره عنها ثم تلقي نظرة اطمئنان على صاحبها الذي يرقد في فراشه ثم تتوجه للمرعى، وكأنها بهذا تنتظر تغير حاله وقيامه من مكانه وشفائه ومصاحبته كما كان، ولكن المدة طالت وصاحبها توفي متأثرا بمرضه. وكالعادة وردت على الماء ثم رفعت الرواق برأسها فلم تجده في مكانه المعتاد وتلفتت من هنا وهناك فلم تجده، وكررت هذا التفقد عدة مرات، لعل وعسى يكون قد غاب عن نظرها، لكن الواقع أثبت لها أنه لا وجود لصاحبها. وفي مثل هذه الحالة قد تسري الناقة بعد اليأس إلى غير رجعة إما جزعاً أو بحثا عنه أو عزوفاً عن المكان نفسه. وهذا ما أدركته ابنة الشمالي فكانت تعقل الناقة ليلا حتى لا يقودها هاجسها إلى غير رجعة. وفي الليلة التي عقلت فيها الناقة كانت هجرعتها (حنينها) وصوتها الحزين يكسر قلب سامعها ويطير النوم من عيون كل من حولها، ويذيب الصخر بوحها بمشاعرها بحثا عن صاحبها الذي كانت تأمل أن يعود لما كان ولكنه غاب ولعلها كانت لا تتوقع ذلك. ومن هنا عبر الشاعر حصيبان بأبياته متأثرا بهذا الحنين متألما لألمها مستثاراً بموقفها الحاني على صاحبها حتى أبكت السامعين.