لا ينشغل العالم اليوم بكل مصارعه وأحداثه وتقلباته وانصراف الناس فيه للبحث عن الحياة وسط ركام الموت، كما تشغله كرة القدم .. إنها اللعبة الوحيدة في العالم التي تمرّر سحرها وخديعتها بأناقة وتلقائية مستمرّة، يستثمرها التجار وتحضر بها السياسات، وتتنازع عليها الأسماء ويتخلّق بها التاريخ.. لكنها وعلى الرغم من أنها بمفهومها العام -و منذ آلاف السنين - لعبة البسطاء بأقدامهم حين يلعب الأرستقراطيون على جيادهم، إلا أنها تحمل صورة مرعبة في حكاياتها الأولى فلهذه اللعبة المعروفة اليوم مشهدٌ يتجسّد فيما ينقله لنا التاريخ عن عام 1016م كما يذكر بعض رواته ومؤرخي البدايات الأولى لكرة القدم في العالم، فمن خلال احتفال الإنجليز بإجلاء الدنماركيين عن بلادهم، لعبوا الكرة فيما بينهم ببقايا جثت المطرودين، وكانت الرؤوس وهي أقرب أعضاء الجسم شبها بالكرة وأسهلها على التدحرج تتقاذف ملامحها بين الأرجل حتى تبلغ الهدف!. صحيح أن هذه الصورة البشعة للعبة استفزّت بقايا الإنسان فيهم في ذلك العصر فمُنعت ممارستها؛ لكنها ظلّت تظهر وتنتشر كلما تعاظم الوحش في إنسان ذلك الزمان، ثم تعود وتمنع بمراسيم ملكية لأسباب متعددة، حتى وصل الأمر إلى حد المعاقبة على ممارستها بالسجن!. والإنجليز كما يعرف مؤرّخو هذه اللعبة الشعبية التي تجوب العالم كلّ العالم ثقافةً وحضورًا هم من نشروها وحملوها لأصقاع الأرض وهم أول شعوب العالم الذين أقرّوا رياضة كرة القدم في مدارسهم وذلك في العام 1710م، وفي الوقت نفسه تأسس أول نادٍ في العالم "نادي شيفيلد الإنجليزي" في عام 1857م على أراضيها وفي ثقافة شعبها، ومهما يكن الواقع والتاريخ ومدى مطابقته لما تذاكره البعض فإن هذا المشهد التاريخي المتعصّب حد الوحشية قد يفسّر لنا بعض التطرّف والجنون الذي يطغى على جمهور كرة القدم في كل زمان ومكان، فمن المعروف لدى التاريخ المنشغل بها وجود فئة كبيرة في كل العصور والثقافات جعلوا منها متنفّسا إقصائيا ونفسيا للوحش الذي يسكن الإنسان ويبحث في كل شيء عن ثقبٍ يطلّ منه على الحدث!، وبالتالي فبقدر ما يسعى العالم اليوم لتوطين ثقافة السلام والتعايش بين البشر ويستثمر شغف الإنسان المعاصر بهذه اللعبة لتحقيق هذا الحلم الإجباري اليوم، وبقدر ماتنفق الدول والشركات والمؤسسات ورجال الأعمال على كرة القدم طلبا للحضور والمفاعلة مع العصر، بقدر ما تحيلنا كثير من المواقف إلى الصورة الوحشية الأولى لها وبأشكال وحالاتٍ متعددة لعلّ أكثرها وضوحًا لدى المجتمعات المتمدّنة والمثقفة والمسالمة تلك المواقف "العنصرية المقيتة" التي يتعرّض لها بعض اللاعبين من ذوي الألوان المتميزة أو أصحاب البشرة السوداء أو حتى تلك العبارات المنفلتة والمنفعلة التي يقتات عليها الإعلام الرياضي ويستثمرها تجاريا بل وسياسيا أحيانا في كل الثقافات أو حتى تلك الصدامات النفسية أو الاجتماعية التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى اشتباكات دامية بين الجماهير؛ ليس إلا امتدادًا لذلك البعد النفسي فالمهزوم ليحمي ملامحه من التدحرج على الأرض وبين الأقدام، والمنتصر ليزيد عدد الرؤوس في ساحات انتصاره!.