في لحظة دخولي إلى المصعد، تحققت إحدى مخاوفي الأساسية: أغلق الباب الفولاذي أوتوماتيكيا بصرامة، معلنا للركاب أن الموضوع في منتهى الجدية، وأننا سنقاوم الجاذبية الأرضية بدون أي عناء. وخلال ثوان معدودات، بدأت الروائح الفواحة تعلن عن كيمياء البشر، بطرق تعلن عن أعمارهم، وشخصياتهم، وغذائهم، وأنماط حياتهم. أعلن وبدون أي خجل أنني أهاب ركوب المصاعد منذ الصغر، وأحاول أن أتجنب ركوبها بقدر المستطاع. والسبب لا علاقة له بمخاطر «الطيحة» ، فمن شبه المستحيلات أن تسقط المصاعد حتى ولو انقطعت الأسلاك التي تيسر حركتها لا قدر الله. الخوف الأساسي من المصاعد ينبع من كون التهوية بداخلها غير كافية في العديد من الأحيان، وبالتالي فهي فرصة رائعة للجراثيم أن تتعارف، وتمارس الطقوس «الاجتماعية» التي تقوم بها لتتحد فتمرضنا لا قدر الله. وهناك بعض الجوانب الداكنة الأخرى لركوب المصاعد، وقد تعرضت لإحداها اليوم. الموضوع له أبعاده التاريخية، والاقتصادية، والعلمية وإليكم بعضها: بسبب خيرات الوطن ولله الحمد أصبحت لدينا طفرة غذائية لا نشعر بها، وتنعكس هذه على كمية الغذاء الذي نستهلكه، وتنعكس أيضا على نوعيته، فلو نظرت إلى كمية البروتينات في الوجبات السعودية ستجد أنها عالية جدا من لحوم مختلفة، وبقول، وغيرها. ولو تأملت في نعم سلتنا الغذائية ستجد أنها عبارة عن توليفات رائعة تأتي من الشرق والغرب بمشيئة الله، وتحتوي على المكونات الغذائية التي لا نتخيلها. طبعا بعضها فواحة وغنية بالجزئيات التي تتحد مع الهواء «لتخبص» الجو، وكأنها «طبخة»، أو «تسبيكة» غنية بالمكونات الغليظة. الشاهد أن كل هذه الحقائق تبلورت في ذهني عندما تحركنا إلى الأعلى وشعرت بالطبيخ المعلق في كمية الهواء المتواضعة بداخل المصاعد. توليفات لحوم وبهارات وبصل وثوم عجيبة. وللعلم، فنحن نتنفس حوالى 23 ألف مرة ونستهلك ما يزيد على العشرة آلاف لتر من الهواء يوميا. والطريف هنا أن رشة «عفونة» بسيطة ضمن هذه الكمية الهائلة كافية لتخرب يومك. وأعترف أن لدي حساسية مفرطة حيال هذا الموضوع، ولكن كيمياء العفونة تحتوي على العديد من العناصر المذهلة. عنصر «البروم» هو من العناصر القليلة التي تجدها طبيعيا في شكل سائل، فمعظم العناصر الطبيعية صلبة. ومشكلته أن رائحته تشبه رائحة التيس «المفلوت» أي ذلك الذي يقضي أوقاته بين القمائم. وأما عنصر «التلوريوم» فهو من المواد الصلبة العجيبة، فرائحته تشبه رائحة الثوم، ولكنها أقوى بعشرات المرات. والمذهل هنا أنه لو تعرض أحد لهذا العنصر ولو لفترة ضئيلة، فتلصق فيه هذه الرائحة الكريهة لفترة طويلة. ولو بقي في مكان ما، ولو لفترة بسيطة، تبقى رائحته لفترة طويلة حتى ولو غادر المكان، وكأنها بصمة فواحة تعلن عن صاحبها في كل مكان. وبالمناسبة فعنصر «التلوريوم» هو الوحيد الذي «يتجرأ» على الذهب. وللإيضاح، فعنصر الذهب يتسم «بشوفة الحال» فهو لا يطيق التفاعل مع معظم العناصر الطبيعية الأخرى، ولذا فهو من العناصر الفريدة التي تجدها في الطبيعة وحيدة ونقية. ولكن «التلوريوم» يتجرأ على الذهب فيتحد معه لو كان قريبا منه وسبحان الله... مصعد اليوم كان يبدو وكأنه مسبك بشحنات مركزة من العناصر الفواحة. أمنية أحزن عندما أشاهد الشباب الذين ينتظرون المصاعد للصعود أو النزول لدور أو دورين، فهي ضياع للوقت ولفرص الرياضة. وأتخيل مخاطر الهواء المطبوخ المسبك بداخل بعض المصاعد ومضاره على البشر. أتمنى أن نقنن استخدامنا للمصاعد وبالذات للصعود أو النزول لدور أو اثنين. كلنا نحتاج للمزيد من الحركة، ومن الهواء غير المسبك.. والله أعلم. وهو من وراء القصد.