هذا الصيف وتحديدا في شهر أغسطس الماضي، زار صديقنا المستعرب البلجيكي الدكتور لوفان، المتخصص في نقد وتدريس الأدب السوداني وترجمته إلى اللغة الفرنسية، زار الخرطوم في زيارة ماكرة أعد لها منذ وقت، واستشارني في الكثير من تفاصيلها وتوقعاتها، وما يمكن أن يحدث ولا يحدث، وذهب. كانت فكرته أن يشم روائح تلك الأمكنة التي قرأها كثيرا في أعمال روائية وقصصية لكتاب سودانيين، يكتبون عن بيئات شتى داخل السودان العريض، أيضا أراد أن يرى كثيرا من التفاصيل، وهل هي حقيقية فعلا أم خيالات كتاب، بعيدة عن الواقع. المهم أن لوفان حقق حلمه بزيارة ما كان يراه بلدا بعيدا ووعرا وعاد بانطباع جيد، وروح معنوية عالية، وتصورات عديدة لترجمة ذلك الأدب البعيد عن المركز، بصورة أكثر شمولا، كما فكر جديا في إعداد كتاب عن الثقافة السودانية بكل ما فيها من اختلاف عن الثقافات العربية الأخرى. ما أريد قوله أن المكان المرئي أو الذي نلامسه حقيقة يختلف تماما عن المكان الذي نسمع أو نقرأ عنه، وفي ما يخص الآداب تجد تفاصيل ساحرة ترد عن مكان ما، ينبهر بها القارئ ويتشوق إلى رؤية ذلك البلد الذي استوحيت منه، ويفاجأ حين يذهب أنه أمام بلاد عادية بلا سحر ولا غموض. العكس أيضا صحيح حين تتخيل بلدا كالسودان من نزيف كتابه، تتخيله وعرا ويابسا وطاردا، لكن حين تزوره تجده مرحبا وسلسا، ويختلف كثيرا عن الذي ورد في الكتابة، كما حدث مع الصديق لوفان. إذن الكتابة الأدبية غير ملزمة بتحري الصدق الواقعي، أو كتابته كاملا، غير ملزمة بوصف الشجر بأنه أخضر وظليل، والبحر بأنه أزرق، هادر الأمواج، وأيضا غير ملزمة بنقل تفاصيل عادية أو غير عادية، لا تراها ضرورة، إلى الصفحات. وكل كاتب له طريقته في الكتابة التي يتميز بها عن الآخرين، لكن مع اعتماد نظرية، عدم الالتزام الحرفي بجغرافيا أو طبائع المكان الذي يكتب عنه. وإذا قفزنا مثلا إلى كتابة ماركيز التي صاغ بها عوالم رهيبة وغريبة، ويتشوق القارئ لملامستها حقيقة، نجد أن خياله لعب أيضا دورا كبيرا، في تفخيخ المكان، وجعله قبلة للقراءة المتشوقة، شخصيا لا أعتقد أبدا أن كولومبيا أو غيرها من دول أمريكا اللاتينية، تملك كل تلك الفخاخ التي تحتلب القراءة احتلابا، إنما هي خيالات الكاتب الذي ربما تشد مترجما مثل لوفان، ليسافر محاولا التعرف أو الاقتراب من عوالم أحبها ونقلها إلى لغات أخرى.