في وسط مدينة الرياض أواسط الثمانينيات الهجرية كانت المدينة قد بدأت تتطور وتتسع ، من الأحياء الرئيسية إلى الأطراف. حيّ المرقب انتقلت إلى البيوت إلى مرحلتها العمرية الثانية تقريباً ، من الطين الخالص إلى الطين و»الحجر» ، كانت خاصرة البيت تبنى من الحجر وهو مادة كانت شبه أليفة لسكان الرياض لكنها لم تدخل البيوت من أبوابها إلا في السبعينيات، حيث كان الحجر يستخدم في طي الآبار وفي بعض البيوت كمادة عملية في أسقف بيوت الدرج وفي مخازن التمر أحياناً ، هذا في منطقة نجد كلها في الفلاليح والقرى، أما المناطق الأخرى فبعضها اعتمد عليه اعتماداً كلياً . لم يدم ذلك طويلاً قبل أن ننتقل خلال ما يقارب عشر سنوات إلى الجرانيت والأدوار العالية والشقق و»البرندات». تغير النمط العمراني فجأة. كان شارع «الدركتل»،سبب تسميته كان وجود «تراكتور» آلة حفر متعطلة لوقت طويل في نفس المكان وتعارف الناس في الوصف على تسميته بالاسم المحرف «الدركتل». شهد هذا الشارع بداية «البلكونات»، لا أعرف المهندس الذي اقترح هذا النمط، لكن معظم السكان كانوا من مدرسي مدارس الرياض القريبة من الشام وفلسطين تحديداً. هذه المدينة لم تعد بريئة كما كانت، افتقدت براءتها وحلّ مكانها وحش غير قابل للتهشيم، بقيت فترة طويلة على «حلّها» منذ أن أنشأت «الكباري» الحديدية المؤقتة والمحدد عمرها بعشر سنوات منذ 98 هجرية على ما أعتقد ولا يزال بعضها قائماً حتى الآن. ومن هذه البيوت كنّا نسمع أغنيات فيروز التي كانت لا تعجب امهاتنا بسبب لهجتها في أغنية «حبيتك بالصيف»، و يتندرن على «مط» الياء في الصيف مع تحريك شفاههن السفلى في ما يشبه الاستنكار، على اللهجة لا على الأغنية فقد كنّ يستمعن إلى مغنين شعبيين وقتها، وأعتقد أن أشرطة «الكاتريج» ، وهي في التقنيات الموسيقية أشرطة حديثة بديلة عن الاسطوانات. زحفت المدينة أواخر التسعينيات، وأذكر أن عام 95 هجرية كان شارع الوزير بالنسبة لجيل ما بعد جيل شارع العصارات، هو الشارع التجاري الوحيد الذي لا نستطيع شراء أي شيء منه غير العصير، الصحف كانت توزّع في (خروج) تشبه التي توضع على الإبل يحملها موزع الشركة على دبّاب، وفي شارع الوزير كانت بسطات الكتب والمجلات القديمة مقابل صيدلية «الخازندار». انتهت أغنيات فيروز عام 1400 ه لأسباب معروفة ولم تعد الأمهات يتندّرن واستبدلن حجاب وخلف وسالم الحويل بعد سنتين أو أكثر ، نقلتهن مرحلة الصحوة إلى نفس المنطقة الخطرة، أخذتهن معها من البساطة إلى التعقيد، من الألفة إلى التوجس والتوحش، والمدينة زحفت. تفرقوا سكان الرياض إلى الجنوب والشمال ، الامتداد الطبيعي، نشأت أحياء كثيرة، لكن غالب الزحف كان باتجاه الشمال لأسباب اقتصادية وطبيعية تخص طبيعة الأرض. ترك الناس الأبواب المفتوحة التي كانوا يثقبون حديدها ويضعون سلكاً قابلاً للسحب لكي يفتحه أي قادم من الخارج، ولم يكن هناك إلا الجيران، سدّوا الأبواب أثناء انتقالهم ، حاولوا نقل البلكونات ، ولم يفلحوا ، أغلقوها فيما بعد كل بطريقته، تركوا النوافذ مفتوحة ثم أغلقوها مرة أخرى بالحديد، بنوا الأسوار حول البيوت، ثم أضافوا لها جسوراً حديدية. وأسلاك شائكة وزجاج مكسّر وملصق بشكل مدبب للأعلى، زحفوا مرة أخرى ثم وضعوا كاميرات مراقبة. من منفوحة إلى المرقب إلى الصالحية إلى الملز إلى العليا، هذا ما حدث شمالاً، الآن منفوحة لم تعد تصلها السيارات، المرقب اخترقته طرقات غريبة ومغتصبة، الملز أصبح معظمه مقراً للشركات، العليا لا تزال تعيش بشكل ما، الوصول لها من شمال الرياض أصبح مغامرة ومعجزة، قبل خمس سنوات بالضبط كان أقصى حدود الشمال يبعد الآن عن أقصاه الجديد كيلو مترات طويلة ومحفورة بعجلات عربات النقل وباصات الشركات والأسواق الجديدة. الرياض انتقلت من أغاني البلكونات إلى مدينة تجارية، مدينة تم غزوها بعد غزوة الثمانينيات الميلادية، بغزوة الشركات والمؤسسات والمقاولات وتفلتت منها أصابعها وأطرافها وضميرها. هذه المدينة لم تعد بريئة كما كانت، افتقدت براءتها وحلّ مكانها وحش غير قابل للتهشيم، بقيت فترة طويلة على «حلّها» منذ أن أنشأت «الكباري» الحديدية المؤقتة والمحدد عمرها بعشر سنوات منذ 98 هجرية على ما أعتقد ولا يزال بعضها قائماً حتى الآن. ظهر المدينة المكسور لم يتم علاجه، لذا أصبحت مدينة مصابة بالشلل التام، والصلاة عليها قريباً. أحببنا الرياض حين كانت تحب، أما الآن فهي مدينة لا نعرفها، أصبحت ملك الفوضى والتجار والعمالة. هذه المقالة كانت النية أن تكتب ك «رسالة لأمير الرياض» لإنشاء «هيئة استشارية من مجموعة من المثقفين والمتخصصن في علم الاجتماع والمهندسين» من أجل إعادة الحياة للمدينة لكنها انجرفت للذاكرة وانتهى الأمر نسبياً. Twitter:@adel_hoshan