لا أحرص على فرجة ومتعة كرة القدم إلا حين تنعقد دورة كأس العالم حيث يفاجأ البيت أنني أحضر كل شيء، من دلة الشاي إلى الرسيفر، لئلا تفوتني مباراة واحدة من مبارياته. هذه الدورة كانت فيها دروس عديدة غير المتعة التي منحتنا إياها، وأهم هذه الدروس أن كبار الكرة صغروا وصغارها كبروا. خرجت منتخبات كبيرة من الأدوار الأولى ودور الثمانية، ثم لحقت بها منتخبات أخرى في ما قبل النهائي وصولًا إلى النهائي الذي فازت فيه فرنسا بالأهداف وفازت فيه كرواتيا بالإصرار والعرق واللعب الجماعي الخالي من نظرية النجم الواحد. النجوم المتوحدون، ميسي، رونالدو، نيمار، لم تنفع نجوميتهم الفردية منتخبات بلدانهم التي غادرت روسيا مثلما غادرتها المنتخبات الأضعف في آسيا وإفريقيا. الكروات، الذين أصبحوا ملء سمع العالم وبصره، علمونا أن المدارس الوطنية، حتى في كرة القدم، تُبنى على أساس التخطيط اللازم والحاسم وعلى أساس الولاء الناجز الذي يحارب فيه اللاعب في أرض الملعب وكأنه يخوض معركة حربية ضروس يريد أن تنتصر فيها بلاده مهما كلفه الثمن. من كان يصدق أن بلدًا صغيرًا ومتواضع الإمكانيات مثل كرواتيا يمكن أن يلعب على نهائي كأس العالم، لكن كل التوقعات والترشيحات غابت وحضر هذا البلد ورئيسته ولاعبوه وشعبه الذي ملأ المدرجات والشوارع. الآن كرواتيا ليست هامشية وليست معزولة، فما قدمته في المونديال وما أعطاه لها هذا المونديال كبير ومهم. وهي سوف تستثمر ما حققته لبناء سمعتها الاستثمارية والسياحية بما يعود على مواطنيها وتنميتها بفائدة أكبر بكثير مما كان عليه وضعها قبل المونديال. الكرة إذن ليست هوايات وتسالي حين تكون على مستوى العالم وفي محافله الكبرى، بل هي ذهب يجر ذهبًا إذا أُحسن تخطيطها والتعامل معها على أنها صناعة احترافية تتطلب كل مقومات وقيم الاحتراف. لقد كسبت فرنسا كأس العالم لكن كرواتيا كسبت العالَم وأذهلته بمستواها وإصرارها على أن تكون رقمًا صعبًا في عالم كرة القدم.