في ظل أوضاع اللهب والقهر في العالم والحروب والأزمات تعجبت من ذلك الخطيب الذي لم يطل في خطبته المملة فقط، بل أطال كذلك في اللحن حتى أزعج كتب النحو، ناهيك عن الحماس غير المتزن.. تلك الخطبة التي تقرأ في ثناياها أن خطيبنا لم يفق بعد لينظر إلى واقعه الإعلامي المائج، وما آل إليه من فنون التنوع الإعلامي وانتشار فضاء الانفتاح ليسوق خطبته متحدثا عن "تويتر وفيس بوك" وآثارهما على الجيل الجديد. وأتساءل هنا عن بعض الخطاب الإسلامي الذي ما زال إلى الآن يطرح مثل هذا الخطاب التقليدي البعيد عن الموضوعية والواقعية والحلول الإيجابية المثمرة، وكأن مجتمعنا بالذات ما زال يعيش منغلقاً - في قرية – بعيدا عن الإعلام الإلكتروني والبث ولم تصله قشور التقنية والبرمجة. وكأن من يعرض هذا الفكر يريد حلاً للمشكلة في أن يُعمل ميثاق أخلاق دوليا، ينص على احترام تقاليد وأخلاق مجتمعنا بالذات أو أنه يريد أن تكون هناك رقابة حكومية تعمل على شبكات التواصل. يا له من منطق غريب وكأننا مع كل مشكلة تواجه مجتمعنا تظهر ردود الأفعال الطبيعية ثم تتغير، وكأن انفتاح الإعلام هو وحده الذي سيدمر مجتمعنا وكأننا في معزل عن العالم، فلمَ لا نفكر في أن كثرة الضغط على المجتمع وإحساسه بالكبت المستمر وخوفنا من الحرية هي التي ستفجر يوماً هذا المجتمع المقيد!!. لقد أصبح الكبت وألفاظ التحريم والجبر في فرض عبارات الرفض لكل ما هو مفروض على ثقافتنا ومؤثر على ديننا، هو الصوت الذي يفهمه بعض الخطباء والدعاة وكأن مشكلة اقتحام الإعلام أردنا أم لم نرد مشكلتنا الأم. فالعالم بأحداثه وتوتراته يتزلزل ويقهر ونحن ما زلنا نناقش آثار شبكات التواصل. إني أوافق أن ما ينقل ويتبادل في سائل شبكات التواصل مؤثر على فكر الشباب وعقولهم، وخاصة ما يسمى "بالإعلام الإلكتروني" والذي عقدت من أجله مؤخرا لقاء في جامعة الملك فيصل، هو خطوة في بداية مسيرة التقويم فهو قوة ناعمة يجب أن نتعامل معها بقوة فاعلة ومتوازنة، ولكنني في المقابل أقول: إن كثيرا من فئات المجتمع لديهم وعي بما يجري حولهم، وأن هذا كله يمكن أن يعالج عن طريق الرقابة المتوازنة والحكيمة، وتنمية الرقابة الذاتية والحس الديني والوطني القائم على الاقتناع الداخلي والحوار العقلاني، مع أن بعض الرقابة وما شابهها من أجهزة الهيمنة على الفكر والمشاعر مجرد رادار خارجي يسجل المخالفات تمهيداً لإقامة العقوبات، فالأسرة أو المؤسسة التي تقرر ثقافة وسلطة الكبت داخلها من الصعب أن تجد لها الحل في الواقع الحالي الذي يجب أن ينظر إليه بواقعية وهدوء لا بمثالية مفرطة، وإن هذا المناخ المكبوت يظهر على السطح وكأنه متماسك وقوي ولكنه قابل للانفجار في أي لحظة. لذا فطبقة الشباب من الجنسين إن لم يدعمهم توازن داخلي وصفاء أسري، وليس لهما القدرة على حماية أنفسهم، فهم ليسوا بحاجة إلى مشاهدة فيلم فاضح مثلا لكي ينحرفوا، أو تبادل شائعات أو فضائح فالفتاة مثلاً التي تحمل داخلها دوافع الرذيلة والخيانة لن تؤجل خيانتها إلى حين ترى فيلماً عن الخيانة، وهي كمن يريد أن يقتل فهناك أسباب ستدفعه للقتل ليس ضرورياً جداً أن يتابع فيلماً بوليسيا، فليس صحيحاً أن الإنسان مجرم ومحب للرذيلة بالفطرة – إلا من انحرفت فطرهم – أو هو ريشة في مهب الريح. إن المنطق الذي يتجاهل الدوافع الحقيقية لسلوك البشر يشوه النظرة إلى الحرية، ويحمل في المقابل على ترسيخ الكبت وثقافة القيد!! والتاريخ بنماذجه شاهد على أن مساوئ الكبت والقمع هي أشد ضرراً من بعض المشاكل المؤقتة التي قد تصاحب مناخ الحرية، والحقيقة أن أي فضيلة مفروضة بالجبر هي خطر حقيقي على الفضيلة، والذي يجعل الفضيلة والقيم أمراً يشرف الإنسان هو اختياره واقتناعه بها رغم أنه قادر على ممارسة غيرها، والناظر إلينا يرى أنه لا يوجد مجتمع لديه الخوف المرضي على أخلاقة وتقاليده كمجتمعنا. إن الذي يمكن أن يحمي أخلاقنا هي نفس أخلاقنا القائمة على صفاء وسماحة عقيدتنا وفطرتنا الدينية. وإذا استطاعت أخلاقنا وتقاليدنا وقيمنا أن تخاطب أفكارنا ومشاعرنا وأخلاقنا وصراعاتنا وتناقضاتنا بشكل إيجابي ومتوازن، بعيدا عن التشنج والصراخ وبأسلوب واقعي ومتجدد وهادئ تكون حينئذ قادرة على حماية نفسها وكذلك الأمر مع شبابنا. وهنا أقول: يا ليت وزارة الشؤون الإسلامية تراعي الاهتمام بغربلة الخطباء وانتقائهم بعناية، ويا ليت خطباءنا الأفاضل إذا أرادوا التغيير لمشكلة خاطئة لدى المجتمع أن يغيروا خطابهم الديني بما يوافق عصرنا بأسلوب علمي عقلاني موضوعي هادئ، فإذا وصلنا إلى هذا لا نحتاج حينها إلى التحمس الزائد في مواعظ الأخلاق مع أهميتها، ولا إلى الرقابة في الخارج حينها سيستمتع المجتمع بالحرية وفق قيم الإسلام دون كبت أو قيد. * الأستاذ المساعد بجامعة الملك فيصل