كنتُ متيقناً من أن خطيب المسجد سيأتي على حادثة التحرش بالنساء، التي حدثت في الظهران مول الأسبوع الماضي، إن هو خصص خطبته لحدث آني. لكنه خيَّب ظني، فقد خصصها للتحذير من دعاوى قيادة المرأة، دون أن يتطرق إلى الحادثة الشهيرة ولو بجملة عابرة. حين أنتقد سلوكاً سلبياً من رجل متدين أو من جهاز مرتبط بالشعور الديني، مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الرد، عادة، هو التحذير من التعميم. خوفاً من أن أقع في هذا، أرسلت سؤالاً لكل مجموعات «واتسآب» التي لدي سائلاً إياهم عن مواضيع خطب الجمعة التي حضروها. عدد منها، ربما في حدود النصف، كان عن نفس الموضوع. فزعت بسؤالي إلى حبيب قلبي «تويتر» فوجدت مئات، نعم مئات، التغريدات يؤكد المغردون فيها أن موضوع الخطب التي حضروها نفس الموضوع. باستثناء خطيب مسجد الأندلس في حي الصفا بجدة، الذي تحدث عن حادثة التحرش، فإن كل خطب الجمعة التي تناولت حدثاً آنياً كانت عن قيادة المرأة، وكلها في سياق التحذير منها ومهاجمة الداعين إليها! في كل المقاييس، التركيز على موضوع آني خاص بالمرأة لكنه خلافي، مثل قيادة المرأة السيارة مع أخذ موقف موحد برفضه، وإهمال موضوع آني خاص بالمرأة لكن إدانته محل إجماع، مثل حادثة التحرش، كان ظاهرة ولم يكن سلوكاً فردياً. وبالطبع، لا يمكن الافتراض أن الخطباء فئة معزولة عن المجتمع منبتة عنه، بل هم يعبرون عن أساليب تفكير شائعة. جُل ما يمكن قوله في هذا السياق، هو طرح السؤال: إلى أي حد يمثل الخطيب المجتمع؟ وهو سؤال تصعب الإجابة عنه بغياب تحقق إمبريقي. إذن فحين نتحدث عن تجاهل ظاهرة التحرش والتركيز على ظاهرة المناداة بقيادة المرأة فنحن نتحدث عن تصور عام ينتظم ذهنية فئات من المجتمع. هذا قادني إلى سؤال: لماذا؟ لماذا يتجاهل الخطيب الحديث عن سلوك خطير ومنتشر وحدثَ فعلياً قبل أيام ووُثق بالصوت والصورة، مثل التحرش، ويركز على قضية قيادة المرأة؟ الجواب الجاهز لدي، أو مقدمات الجواب، هو أن ذهنية الخطيب، ومن يمثله، مبنية بحيث تخاف وتتوجس من أي تمكين للمرأة. سلوك التحرش ليس تمكيناً للمرأة، بينما القيادة تمكين لها. تمكين المرأة من مجالات جديدة مثير للرعب، للخوف، للإحساس بأن العالم ينهار من تحتنا. هذا كان باعث محاربة تأنيث محلات بيع المستلزمات النسائية، وأيضاً باعث تعليم المرأة وكل شأن له صلة بزيادة تمكينها. حتى مواجهة التحرش بقانون هو تمكين لها. لكن العدالة في الفرص والمزايا والامتيازات بين الجنسين أضحت علامة على عدالة النظام الاجتماعي ككل، والأمم التي ترفض طرق هذا السبيل تحفر لنفسها هوة تفصلها عن لغة العصر وإيقاعه. بكلام آخر، شيوع تصورات ذهنية ترفض تمكين المرأة هو بمنزلة إدخال المجتمع إلى صحراء التوهان التنموي، لا تنمية دون تمكين للمرأة. من يرفض هذه الحقيقة عليه أن يأتي ببينة على مجتمع معاصر واحد نجح في التنمية مع طرد المرأة من الفضاءات العامة ما أمكن، أو مع الفصل بين النساء والرجال. من المفهوم أن تكون التصورات الذهنية المضادة لتمكين المرأة جزءاً من أنظمتنا الثقافية قبل المعاصرة. لكننا مجتمع حديث وثري، وخطوات التحديث في عموم المملكة بدأت قبل حوالي ثمانية عقود. إذاً، كيف أمكن للصور الذهنية القديمة نفسها أن تتناسل عبر الأجيال، عوضاً عن أن تستبدلها الأجيال الجديدة بقيم وأفكار جديدة، كما هو متصور أن يكون كنتيجة للتحديث وولوج العصر؟ ثمة مؤسسات عملت على ما يسمى في علم الاجتماع ب«إعادة الإنتاج الاجتماعي» لمشاعر الرفض والخوف من تمكين المرأة، وليس الخوف عليها، بدليل أن الخطب كانت عن القيادة وليست عن التحرش. ما هي هذه المؤسسات؟ بما أننا نتكلم عن الصور الذهنية وعن الأفكار والأحكام والمقاييس والقيم، فإن المدرسة تأتي على رأس المؤسسات الموكول إليها صياغة كل ما سبق. تعليمنا هو أحد المسؤولين عن إشاعة هذه الصور الرافضة لتمكين المرأة. لدي دليل. وجدت لدي كتاباً قديماً من مطبوعات الرئاسة العامة لتعليم البنات بعنوان «المرأة المسلمة»، من تأليف وهبي سليمان غاوجي الألباني، الطبعة الثانية 1409 ه. الكتاب مقرر كمادة مطالعة على طالبات الصف الثاني الثانوي. يحاول الكتاب أن يرسم مواصفات «المرأة المسلمة». سأنقل إليكم بعضاً من مواصفات هذه المرأة، كما وردت في الكتاب. هذه المرأة «لا ترى الرجال ولا يراها الرجال» (ص 157)، وبالمناسبة، اللفظ نقلاً عن لفظ لفاطمة ورد في حديث ضعّفه الألباني لكنه في كتبنا المدرسية نبراس لما يجب أن تكون عليه المرأة المسلمة! ولا يوجد في بيت هذه المرأة تليفزيون ولا تقرأ القصص (الفاسقة) ولا تذهب مع زوجها إلى السينما، (ص 156). لا تلبس الثوب القصير حتى في بيتها وبين أولادها (ص 241)، وتلتزم بلبس النقاب، بدليل حديث الرسول (ص) «لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين»، فهي معفاة من لبسه فقط عندما تكون محرمة (ص 233). لا تموت إلا وزوجها راضٍ عنها (166). يكثر لها من دروس الدين، أي أكثر من الرجال، لأنها سريعة التحول (ص 259). وبعض النساء المسلمات، فقط جزء وليس العموم، يُسمح لهن بمواصلة التعليم لتدرس الطب والتمريض والتدريس بما يكفل إيجاد طبيبات وممرضات ومدرسات مخصصات للنساء (ص 260). كما «ينبغي أن لا تُعلّم الأنثى كما يُعلّم الذكر حذو القذة بالقذة كما يفعل الآخرون» (ص 260). والعلم الذي يُسمح لها بأخذه هو العلم الذي يناسب وظيفتها في الحياة، التي يقرر المؤلف أنها رعاية المنزل وتربية الأولاد (ص 259-260). ومن الأفضل أن لا تطلب المرأة الوظائف، فهذا هتلر وموسوليني كان يقدمان الجوائز المُغرية للنساء لترك الوظائف والعودة إلى المنازل (ص 254). أما أطرف صفات المرأة المسلمة فهي عدم نزع النقاب بحضور المرأة الكافرة، لأنها كالرجل (ص 242). بالجملة، حوى الكتاب تصورات عجيبة لموقع المرأة في الحياة، لا علاقة لها على الإطلاق بما تطمح إليه المرأة التي تذهب للتعليم! كتب الرجل كتابه لمحاربة كل صور تمكين المرأة، كما عاشها في سوريا أو كما رآها في بلاد كثيرة. وفيما أن مكان كتاب مثل هذا هو التهميش في سوريا أو مصر مثلاً، فإنه تحول لدينا إلى مقرر مدرسي على طالبات الثانوية لدينا! كيف تقرر السلطات التعليمية لدينا كتاباً يقول إن تعليم المرأة يجب أن يكون محدوداً جداً، وأن طلبها الوظائف غلطة؟! هذه التصورات صادرة عن رجل أقل ما يُقال فيه إنه مصدوم بالحداثة، وتكشف سيرته الذاتية شيئاً من هذا. كيف نؤسس أجيالنا الجديدة على قيم أناس يشكل التحديث لهم رعباً وهماً وغولاً يجب الحذر منه؟ ألم يكن من الأفضل للإنسان والتنمية لدينا أن نربيه على الجسارة والإقدام وخوض غمار تحديات التحديث، فنقرر كتباً للمطالعة والقراءة كتبها أناس جزء من العصر، بدلاً من العكس؟ والسؤال الأهم هو: لماذا؟ لماذا اخترنا سبيل الحذر والخوف من التحديث بدل اقتحامه بجسارة؟ غالباً، السلطات التي قررت هذا الكتاب كانت تتكون من رجال، والتصورات الواردة في الكتاب عن المرأة هي التي تناسب الصورة الذهنية التي لديهم أصلاً. إن كان هذا هو خطابنا الموجه إلى المرأة لتشييد تصوراتها عن نفسها ومكانتها في المجتمع، فماذا عن خطابنا الموجه للذكور للتشييد، والمحافظة على، هذه التصورات؟ ركزت خطب الجمعة على موضوع القيادة وأهملت التحرش لأن القيادة تمكين للمرأة والتحرش مجرد مضايقة لها. وفقاً لخياراتنا القيمية التي أنشأها نظامنا التعليمي وحافظ على صونها جيلاً بعد جيل، فإن تمكين المرأة هو ما يثير التوجس والريبة والخوف وليس مضايقتها والتحرش بها. هذه هي التصورات الذهنية العامة التي جهدت مؤسساتنا التعليمية، جنباً إلى جنب مع خطابنا الوعظي، على إنشائها والمحافظة عليها جيلاً بعد جيل. مع تصورات كهذه، تبدو كل من مسيرتي التنمية والعدالة ملغومتين بصعوبات ثقافية نابعة من عندياتنا.