يتعثرون في السطر الأول من الحياة، لكنهم يتقنون فن الموت. يسوطون الناس بالعقاب ويتفننون في صياغة الإثم وكل ما انشق من بناته، فبمجرد أن تعيد النظرة تقع بقدمك في الخَطِيئة، وما إن تتخيل حتى تصيب ذَنْبا، وكلما رغبت في الفرح، وأطلقت ضحكتك عالية؛ نالك وِزْر، أن ترفع رأسك وتقول: لا، فتلك مَعْصِيَة، وأن ترقص فقد جئت بسَيِّئَة، ولو غنيت بما أوتيت من صوت؛ جِنايَة، ويكاد وجودك حيا؛ جَرِيرَة. يعلقون يافطاتهم في الشوارع، وعند إشارات المرور، يزدرون فيها العيش ويحثون على الفناء، يمتدحون الموت بقصائد مطولة، ويبتكرون طرائق لا تحصى للذهاب إليه، طرائق لا تخطر على بال الموت نفسه، حتى أصبح للموت أسماء لا تعد ولا تحصى، من كثرة الاستعمال، ولا تملك الحياة لنفسها اسما غيره يؤنسها. أعينهم تبحلق في كل غريب وتلومه قبل أن ينطق، يطلقون عليه نبالهم حتى يعود عن غيه، ويهدونه إلى الدرب الذي لا مناص عنه، فمن رغب في ملمح لا يشبه أقنعتهم، شذ، ومن شذ مآله عسير، كأنهم شقوا عن صدره جازمين بما حاك في صدره من فرادة وشوق. كم حملنا على ظهورنا كلامهم الثقيل، وزاد عن طاقتنا وتدلت أطرافه تخط على الدرب وتمحو خطانا الواهنة، كلامهم الثقيل عن القبر، وكأننا ولدنا لنقفز إليه دون التفات ولا فرصة لالتقاط النفس. عذابات ينسجون كائناتها من الرعب والألم، يقطرونه في سمع الصغار، حتى تكفهر وجوههم، ويخرجون من الباب بسمات متشابهة، ولا علامات فارقات، حد البلاهة واليأس. كان فتى غضا، يمشي في الطابور من البيت إلى المدرسة، يعود مقفلا كل يوم، أكثر من اليوم الذي قبله، وفي لحظة لا يكاد يعرف الفرق بينه وبين الطفل الذي أمامه، إلا بمقدار الخسران الذي أصابهما معا، كان يمشي مجذوبا، ويفتح رأسه مثل صندوق، ليضع ما يشاءون ويطردون ما لا يشاءون، حتى يمتلئ عن آخره، مكتفيا بالنقصان. كان فتى غضا، مثله، في مكان آخر من العالم، يمشي في الطابور من البيت إلى المدرسة، أيضا، لكنه تعثر بسؤال صغير، مثل شوكة شكت قدمه، فانحني ليحكها، عندما راح الطابور عنه واختفى بعيدا… ورويدا رويدا سطعت أغنية في سمائه، وسمع موسيقى تدك الأرض وتهتز لها الجدران، أخذ الفتى يتلفت مرتاعا، وأصابه الهلع، وانفرد به الخوف، لم يعتد على ما يرى أو يسمع، يشهد شيئا يسري في جسده، كأنه شجرة تركض وحيدة خارج الغابة، صوت يصيح أن اتركوني فردا، أيها المعلمون.. هكذا يسمع، هكذا أعاد الصوت فأتقنه، وفجأة طلت من وجهه ألوان الطبيعة، وعلى ثغره طلعت ابتسامة لامعة، وبيدين فرحتين صفق، ودق بقدميه الأرض، حين صرخته شقت الفضاء، وتصدعت منها الجدران، ها هو يطالع يديه كالمطارق ويرفع عينيه إلى السماء، ويرتج كما الرعد مستعيدا أغنية الجدار ل «Pink Floyd»، حتى لا ينسى أبدا، كي لا يعود مبهما بلا ألوان، وواحدا من طابور ذاهب إلى حظيرة القطيع أو طوبة مجهولة في الجدار.