جلس أشعب أمام بابه يفكر.. فقد أصبح كئيباً ومهموماً.. جلس وهو يلملم الحجارة الصغيرة من حول قدميه، ويجمعها ثم يحركها داخل يده، ثم يلقي بها بعيداً، وكأنه يجمع همومه ويلقي بها أكثر ما يستطيع.. وخطر في ذهنه، وهو مبلبل الخواطر سؤال مؤلم، وهو هل الإنسان كلما كبر وتقدمت به السنن، صار أكثر خوفاً، وقلقاً، مما كان عليه أيام قوته، وشبابه؟ مع أن العكس هو الصحيح في حساب الحكمة.. وأحس أن السؤال أخرجه مما كان يفكر فيه، وهو البحث عن حل لمشاكله، التي أخذت تزداد تفاقماً، وتعقيداً فبيته أصبح خالياً، بلقعاً.. وجيبه خاوياً لا شيء فيه.. ونادته زوجته من داخل البيت فخاف وذعر، ولم يرد عليها لأنه يعرف ماذا تريد... وقد اكتفى أن قال في نفسه «أطال الله عمرك، وقصّر لسانك..» ووالله يا عزيزتي لو أنني كنت وحدي في هذه الدنيا لما شقيت، ولعشت كما تعيش أية هامة، أو دابة على هذه الأرض، سخّر لها ربها ما يجعلها تبيت مليئة البطن عديمة القوت في بيتها.. ثم فكر في ماضيه وقال إنه قد كان مُضحك الولاة وأصحاب القصور، واليوم لم يعد أحد يستقبله، أو ينظر إليه فقد تغيرت أمور الإضحاك والتسلية، والمتع.. وقال إنه كان إذا ضاقت به الحيل مارس التطفل فذهب إلى الأعراس، والولائم، والمناسبات فأكل وحمل إلى داره ما يحمل.. واليوم لا أحد يدخل إلا ببطاقة منمقة، مزركشة لايمكن أن تصل إليه، ولايمكن أن يبعث بها إليه أحد.. وتذكر أنه إذا ضاقت به سبل العيش نزل إلى السوق فعمل مع الفاكهيين، والخضّارين، وشرى وباع، وهو اليوم لن يفعل ذلك. لأن العمالة الأجنبية تقف له بالمرصاد فسوف يدفعونه، وربما جلدوه ودهسوه بأرجلهم كحشرة بلا وطن.. فكّر في أن يقف ويمد يده في الشارع، ولكن مكافحي الشحاذة سيحملونه في السيارة ويقذفون به في أقرب سجن إلى أن يتعفن، وما سأل عنه أحد.. فكّر في أن يذهب إلى أهل الخير ويشكو حاله إليهم.. ولكن كيف يعرفهم، وكيف يصل إليهم، بل وربما أن على أبوابهم حراساً وكلاباً أيضاً.. وفكّر أن يقوم باكراً ويذهب إلى صناديق الزبالة فلا شك أنها تحتوي على نعم كثيرة، ولكن كيف له أن يعقد صحبة مع القطط والكلاب، وقد كان مضحك الكبار ونديم الولاة.؟ وذبح كلب جاء صوته من قصر هناك.. وكان قد رآه ذات يوم يروضه خادم في الطريق.. كان كلباً صغيراً، سميناً، ناعماً ومترفاً، فتمنى في نفسه أن يكون رفيقاً أو مسلياً، أو مضحكاً لذلك الكلب... ثم شعر أن كرامته هوت إلى أسفل درجات المذلة. فبكى وقال: ما أتفه الحياة، وأحقرها، حينما يصل فيها الإنسان الذي كرمه الله، إلى أن يتمنى بأن يكون، مُضحكاً، أو مسلياً..