لم يكن مستغربا اعتداء إسرائيل على أسطول الحرية، بل انه سيكون غريبا لو لم تقم بهذا الاعتداء، وهذا أمر مفروغ منه، لأن هذه "الدولة" الإرهابية التي أوجدت نفسها عبر سلسلة من الجرائم التي يصعب حصرها، آخرها هذا الاعتداء الذي يحرج الإنسانية كلها، رغم عدم تفاؤلي أن الإنسانية في حالة تسمح لها بالحرج أصلا، فهذا الكيان لن يتورع أبدا عن ارتكاب كل ما يؤكد أنه الأقوى وأنه طفل الغرب المدلل. المسؤولون الإسرائيليون متيقنون أنهم فوق الحساب، فنتنياهو يخرج وبكل صفاقة ليؤكد رفضه رفع الحصار عن غزة، فموضوع الاعتداء على أسطول الحرية مسألة هامشية جدا بالنسبة لرئيس وزراء العدو، بل ان غزةوالفلسطينيين وكل العالم العربي أكثر هامشية في نظره من أن يلتفت لشجبهم واستنكارهم وأصواتهم المبحوحة، فضلا أن يفكر في تقديم اعتذار للعالم عن الجريمة التي ارتكبها. إسرائيل المتعجرفة تعلم أنها فوق الحساب ومهما خرجت من تقارير تدين العدو وحتى إدانة مجلس الأمن لأي عمل تقوم به، فهذا لا يعني شيئا أبدا، فهي فوق أي قرارات يمكن أن تدينها. لا اعتقد أنه يجب علينا أن نستمر في الثقة في أن العالم يمكن أن ينصفنا، لأنه يجب أن ننصف أنفسنا أولا، فما أخذ بالقوة لا يمكن ان يسترد إلا بالقوة، لكن هذا لا يعني أننا ضد الدبلوماسية، أو ضد الإعلام على وجه الخصوص، فقد أكد لي أكثر من صديق أنه صار يلاحظ تحولا عميقا في الإعلام العربي والفلسطيني على وجه الخصوص فقد بدأ هذا الإعلام يصنع صورة جديدة للقضية الفلسطينية على مستوى الإعلام العالمي يمكن أن يساهم في إيصال صوتنا للشرفاء في العالم. أنا شخصيا مؤمن بالإعلام، ومؤمن بالتعليم، فقد فقدَ أبناؤنا صلتهم بقضية فلسطين، ولم نعد نسمع عن أي حملة مناصرة في المدارس للقدس، حتى أننا لو سألنا أطفالنا هذه الأيام عن فلسطين فبعضهم لا يعلم عنها شيئا. في اعتقادي أن هذه القضية يجب أن تبقى في وجدان الأمة ويجب أن يكبر أبناؤنا وهم على وعي كامل أن حقهم في فلسطين تاريخي وأنهم يجب أن يستردوها في يوم. إسرائيل ستظل غصة في الحلق، لأننا رضينا بذلك، وأصوات الشجب العربية مكتومة نتيجة لهذه الغصة، ولن يفيدنا كل ما نقوم به الآن ما لم نقوِّ أنفسنا، ليس على المستوى العسكري فقط، بل على المستوى الاقتصادي والمعرفي مقارنة بما سمعته قبل أسابيع في مقابلة مع أحد اليهود فقد كان يتحدث عن مدينة الخليل وكأنها ملك إسرائيلي تاريخي، لقد كان يذكر أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام وكأنه "إرث يهودي" فمجرد أن الخليل مدينة أبي الأنبياء وأن قبور زوجاته موجودة بها، فهي مدينة يهودية خالصة وعلى الفلسطينيين أن يبحثوا عن أرض أخرى يعيشوا عليها. ولا أعلم حقيقية أن اليهود يعرفون أن حقنا في نبي الله إبراهيم أكثر من حقهم، لكن هو الإعلام والتعليم الذي يصنع "معتقدات" تعطي البعض حقوقا ليست من حقهم. مقارنة بقناعات هذا اليهودي الذي يسانده إعلام ضخم ويبرر كل معتقداته، نظل نحن هامشيين حتى في تعليم أبنائنا بواجبهم نحو مقدساتهم ونحو أرضهم، نحن لا نعرف كيف ندافع عن حقوقنا أبدا. التبريرات التي خرج بها المسؤولون اليهود بعد الاعتداء على أسطول الحرية مضحكة وساذجة لكن الغريب أن العالم والغرب على وجه الخصوص يصدق هذه الترهات ويقبلها ويعتبرها "أخلاقية"، لأن صوتنا يكاد لا يسمع. الحرب القادمة إعلامية ويبدو أننا لا نعرف كيف ندير هذه الحرب ولم نتعلم أدواتها بشكل جيد، فرغم التحسن الملحوظ في أدائنا الإعلامي، إلا أننا مازلنا نتخبط وذاكرتنا سطحية وتنسى القضايا الكبرى بسرعة، فما زلنا لم نصح بعد من أزمة الاستيطان في القدس، رغم أن الإعلام العربي نسيها بالكامل ورغم أن إسرائيل ضربت بعرض الحائط كل المطالبات، حتى الأمريكية منها، بوقف الاستيطان، وظهر رئيس وزراء العدو ليقول انه لن يوقف الاستيطان وأن القدس مدينة واحدة وهي عاصمة لإسرائيل. فنحن نريد أن نضع رؤوسنا في التراب ولا نريد أن نرى الحقيقة، لأننا أصلا لا نخجل من ضعفنا، ونقول في أنفسنا "العين بصيرة واليد قصيرة" نعيش أزمة ضعف عام وأزمة عدم الرغبة في الاعتراف بهذا الضعف ونحب أن نوهم أنفسنا أن الأوضاع مقبولة وأننا "بخير" ونحن في حقيقة الأمر لسنا بخير أبدا. إسرائيل لن تتوقف عن إهانتنا، فمنذ سنوات ونحن نسمع عن مبادرة عربية تلو الأخرى واليهود يسخرون من هذه المبادرات بل ويتعمدون فعل عكسها إمعانا في إحراجنا. إسرائيل ستظل غصة في الحلق، لأننا رضينا بذلك، وأصوات الشجب العربية مكتومة نتيجة لهذه الغصة، ولن يفيدنا كل ما نقوم به الآن ما لم نقوِّ أنفسنا، ليس على المستوى العسكري فقط، بل على المستوى الاقتصادي والمعرفي، لأن المستقبل يحتاج إلى شعوب واعية وعارفة وقادرة على الاعتماد على نفسها، وإسرائيل لن يعجبها أن نعتمد على أنفسنا، لأن هذا هو بداية النهاية بالنسبة لهذه الكيان "الطفيلي". لكن طالما أننا نعيش حالة "مبادرات الضعف" المضحكة، فإسرائيل في مأمن ويحق لها أن "تبرطع" (على حد قول المصريين) ولن يستطيع أحد أن يقول لها "ثلث الثلاثة كم". نحن بحاجة إلى دراسة "سيكولوجية" للحالة العربية، فما الذي يجعلنا نقبل كل هذه الإهانات وما الذي يجعلنا لا نفعل شيئا من أجل التغيير، ولماذا نظل ننتقل من حالة ضعف إلى أسوا منها؟ هذه الأسئلة ليست جديدة لكنها محيرة ومزعجة ومثيرة للإحباط. الاعتداء على قافلة الحرية أمر منطقي فإسرائيل تقرأنا وتقرأ العالم جيدا وتعرف أننا مازلنا نخوض في قضايا هامشية ولم نحدد أهدافنا بعد، ولو عرفت أننا يمكن أن نقوم بردة فعل لها قيمة لما أقدمت على أي من جرائمها. سوف ننتظر الجريمة القادمة دون أن يتغير شيء، ومن "يغامر" ويعتقد أن إسرائيل يمكن أن تتغير أو يعتقد أن العالم سوف يقف بجانبه، فسوف يكون على خطأ، لأن إسرائيل فوق كل شيء طالما أنها تعمل على إضعاف جيرانها وتعلم أن هؤلاء الجيران يعيشون خارج التاريخ.