من كانت لديه أدنى خلفية عن الحامض النووي ودوره الأساس في كافة أنواع الحياة التي ندرسها في كوكبنا لن يستغرب أبدا أن يخصص العالم يوما في السنة (الخامس والعشرون من أبريل) للاحتفال بهذا المركب الذي يخلب الألباب بما أودعه الله فيه من عجائب لا يزال العلم الحديث يسبر أغوارها ويسعى حثيثا لفك طلاسمها التي ما إن نشعر أننا حققنا تقدما في سبيل ذلك إلا و ندرك أننا ما أوتينا من العلم إلا قليلا.. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ شكل الحامض النووي كسلم طويل ملتوٍ تمثل الدرجات فيه مناطق التحام الحروف المتطابقة التي تمثل الشفرة الجينية، وهنا تنبغي الإشارة إلى أن تشبيه الحامض النووي باللغة ليس بالبعيد حيث إن الحامض النووي هو فعلا شريط طويل من الحروف ولكنها ليست ثمانية وعشرين وإنما أربعة فقط! والآن تخيل معي أن هذا الشريط الطويل من الحروف مرتب بشكل مزدوج تمثل الحروف الأربعة مختلفة الترتيب درجات السلم والمكونات الأخرى (السكر والفوسفات) دعامتيه. وكما أن مجموعة الحروف في اللغة تسمى كلمة فإن مجموعة الحروف في لغة الحامض النووي تمسى مورثة (جين). ويحتوي شريط الحامض النووي على ما يقرب من عشرين ألف مورثة لكل منها وظيفتها الخاصة في الخلية أو خارجها. و لكن لا بد من يتذكر القارئ العزيز أننا نرث شريطين اثنين من الحامض النووي (واحد من الأب وآخر من الأم) مما يعني أن لدينا نسختين اثنتين لكل من هذه المورثات العشرين ألفا وعادة ما يتكيف الجسم مع وجود نسخة واحدة فقط إذا ما حصل هناك خطأ مطبعي (الذي نسميه في لغة الحامض النووي بالطفرة الجينية) في النسخة الأخرى. من غرائب الحامض النووي أن هناك عددا هائلا من الحروف المنثورة على هذا الشريط بين المورثات والتي لا نعرف ما تفعل تماما بل وكانت تسمى بالحشو الفاضي إلا أن السنوات الأخيرة أظهرت أن لكثير من هذا الحروف وظائف لم تكن لتخطر على البال لولا التقدم التقني المذهل الذي يشهده هذا العلم ولعل في هذا درس للمجتمع العلمي في تذكر قاعدة أن عدم إدراكنا لوظيفة شيء ما في هذا الكون لا يعني بالضرورة أنه بلا وظيفة! وبعد هذه المقدمة البسيطة، ما سبب الاهتمام المطرد بشريط الحروف هذا يا ترى؟ أحسب أن الإجابة على هذا السؤال لا تخفى على الكثير حتى من غير المختصين ولعلي أسرد على عجالة بعضا من هذه الأسباب: 1- البصمة الوراثية والتي هي ببساطة طريقة ترتيب الحروف على شريط الحامض النووي. 2- التشخيص الجزيئي وهذا من أسرع فروع علم التشخيص الطبي نموا حيث يزداد الأمل يوما بعد يوم بإمكانية تشخيص الأمراض المختلفة عن طريق مؤشرات جزيئية لا تزيد فقط من دقة التشخيص. 3- التنبؤ المبكر بحيث نتمكن من التنبؤ بإمكانية إصابة أي شخص بأي مرض تقريبا (سكر، ضغط، سرطان، إلخ) بمجرد قراءة الحامض النووي الخاص به مما يمكننا من التدخل المبكر لتجنب حصول المرض قبل وقوعه. 4- التحسين الجيني وهذه من أشد المجالات إثارة للجدل في البشر وإن كانت تطبق بشكل واسع جدا زراعيا عن طريق تطوير محاصيل (سوبر) قادرة على التكيف مع شح المياه، وصعوبة الطقس، ومقاومة الأمراض، إلخ. كما ترى عزيزي القارئ فالمستقبل القريب يحمل لنا العديد من المفاجآت السارة التي سيكون الحامض النووي بطلها بلا منازع فهل نحن جاهزون في عالمنا العربي لركوب الموجة واللحاق بهذا الزخم العالمي؟ سأترك الجواب للقارئ الكريم ولكن لن يفوتني بأن أختم برسالة قصيرة: إن كنت عزيزي القارئ لم تتح لك الفرصة لركوب هذه الموجة فهل أقل من أن تعاهد نفسك على أن تتيح الفرصة لأبنائك وبناتك بأن تشجعهم على القراءة عن هذا الفرع من العلم والتخصص فيه، وما يدريك فقد يكون الشخص الذي سيترك بصمته في هذ العلم ابنك أو ابنتك ولعل الدراسة التي ذكرتها آنفا وكان أبطالها طلاب وطالبات مدرسة ثانوية عادية خير دليل! *كبير علماء أبحاث الجينات في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث