* لم أرغب يوما أن اكتب عن السياحة وعلاقتها بالثقافة المجتمعية وخصوصا في الجانب الذي يخصها كمؤسسة حكومية، وذلك لاعتبارات كثيرة منها أنني جزء من مؤسسة السياحة في تنظيمها الإداري فأنا جندي في جيشها الكبير الذي يقوده رائد الفضاء ورائد السياحة الأمير سلطان بن سلمان، أما الاعتبار الثاني فهذا التوقيت أنسبها للحديث عن السياحة، بالإضافة إلى كون السياحة كثقافة جديدة على المجتمع لم تُدرك أبعادها الاقتصادية بشكل جيد فضلا عن أبعادها الاجتماعية الفكرية والسياسية. مجتمعنا لازال بحاجة إلى الكثير من التوعية والتثقيف وعلى جميع المستويات ليدرك ذلك الفرق الشاسع بين السياحة كمفهوم سطحي ارتبط بالسفر والترفيه والمتعة في كثير من أجزائه وتحديدا ما ساد المجتمع بعد الطفرة الاقتصادية، حيث فتحت الفرصة أمام الكثير من أفراد المجتمع للذهاب إلى مجتمعات مختلفة لم يكونوا يعرفونها من قبل. لقد كان الجميع يذهب تحت عنوان السياحة، ولكن ليس الجميع هم سياحاً وقد مارس الكثير من الأفراد سياحة مختلفة ارتبطت بممارسة طقوس لها أبعاد مختلفة عن تلك التي تحملها السياحة. ولكن الجريرة التي حملتها السياحة كمفهوم اقتصادي ومعرفي وقيمي حديث علينا تمثلت في سلبية المعرفة التي تكونت لدى المجتمع عن السياحة وثقافتها، وليعذرني المجتمع والمهتمون عن هذا التفسير، ولكن الحقيقة تقتضي البداية من هنا فالرغبة بالتصحيح في المفهوم وتعزيزه يجب أن تحمل الماضي الذي بنينا عليه هذا المفهوم لنعرف الكيفية التي تخلصنا منه. هذا المفهوم (السياحة) قد يكون تغير على مستويات مختلفة، ولكنه بقي مرجعا أساسيا لمناقشة ماهية السياحة بل بقي عنوانا للمراهنة على نجاح السياحة من عدمها، فاليوم وفي مجتمعنا تحديدا هناك تيارات فكرية مختلفة تناقش مفهوم السياحة وفق قضيتين أساسيتين، القضية الأولى: تتعلق بالمراهنة على نجاح السياحة كصناعة، حيث ينظر هؤلاء إلى السياحة من زاوية واحدة فقط. هذا المفهوم في القضية الأولى وبلغة مبسطة يضع السياحة في كفة وقيم المجتمع في كفة أخرى وينفي وجود منطقة أخرى تحقق فيها السياحة نجاحات اقتصادية واجتماعية باهرة. القضية الثانية: تتعلق بالكيفية التي ينظر بها الكثير من أفراد المجتمع إلى السياحة كمصدر اقتصادي يقوم على تفعيل التاريخ واستثمار الحضارة ومنها الاهتمام بالمناطق الأثرية وكيفية تنشيطها والمحافظة عليها. هاتان القضيتان تشكلان محورا فكريا نفقد من خلاله الكثير من مقومات السياحة الاقتصادية بل نفقد الكثير من أنماط السياحة ومقوماتها الحقيقية، لهذه الأسباب وفي نفس الوقت يطالب المجتمع في تفعيل دور المؤسسة السياحية، ولكن المجتمع لازال في كثير منه أيضا متوقفا حائرا في عملية استجواب لثقافته وفكره الاجتماعي بين منهجيتين حول السياحة إحداهما فكرية تقليدية لديها مواقف سلبية كثيرة حول مفهوم السياحة والثانية تنظيمية تعكس حجم العمل الذي تؤديه مؤسسة السياحة. من هنا يمكننا القول بأن السياحة كما يبدو وخصوصا في المجتمعات التقليدية والحديثة على هذه الصناعة، تعاني من قلق شديد فكثير من الفئات التقليدية ترى في السياحة "انحرافا غير ضروري عن الأولويات الرئيسة للمجتمع الذي يرى أن هناك معايير أساسية لديه أهم من أن تكون السياحة احدها" لهذا السبب لن يكون مستغربا أن تواجه السياحة كثقافة رفضا مكشوفا أو متخفيا لواقعها ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الزيادة في توجيه الأسئلة ذات العلاقة بمعطيات اقتصادية أكثر من كونها مرتبطة بمعطيات سياحية. قد يكون هذا النهج غير واضح بشكل دقيق على المستوى الاجتماعي وخصوصا في ظل الأنشطة الترفيهية التي تمنحها السياحة للمجتمع حاليا وما تقدمه من فعاليات، ولكن الحقيقة أن هذا النهج له مخاطر مؤلمة فالسياحة كبعد اقتصادي لها وجه آخر (فالتنمية السياحية ليست مدلولا ضيقا يرتبط بتقديم التسهيلات والخدمات من اجل تلبية حاجات السائح). التنمية السياحية حالة من إعادة التشكيل لثقافة المجتمع ومفهومه نحو منتج اقتصادي ومصدر ثقافي متحول ومتحرك ومتنام ليس بفعل الدعم الحكومي فقط، ولكن بفعل تعزيز الثقافة السياحية وتنميتها في المجتمع وضمان مشاركته. مناقشة السياحة في المجتمع يجب أن تتجاوز التسطيح الفكري وخصوصا في المفهوم، فالسياحة ليست الترفيه والمتعة، الترفيه والمتعة سوق اقتصادية تمارس فيه السياحة احد أدوارها الرئيسة، السياحة صياغة فكرية لحالة تحول اجتماعي مردودها الرئيس على القيم الوطنية والانتماء. السياحة تنمية اقتصادية في الماضي والحاضر والمستقبل على حد سواء فالسياحة حالة سياسية تفرض وجودها من خلال استعراض تاريخي للحياة الاجتماعية والثقافة وربطها بالتاريخ السياسي للوطن ومنتجاته التاريخية ومسيرة تطوره ونموه. المنعطف الخطير للسياحة كمفهوم اجتماعي يكمن في عدم إتاحة الفرصة لفهمها على أنها داعم رئيس وأساسي لقيم اقتصادية وفكرية واجتماعية قائمة في المجتمع، وهذا ما يوجب الفصل بين السياحة ومفاهيم الترفيه التي تفهمها مجتمعاتنا لوحدها دون غيرها. إن ما يحدث الآن من ترحيب بالسياحة في المجتمعات المحلية وخصوصا من خلال المشاركة في الفعاليات أو إقامتها هو ترحيب متحفظ نظرا لكون الكثير من الأسئلة الخاصة بهذه الصناعة لم يتم الإجابة عليها، فصناعة السياحة تعتبر أكثر الصناعات علاقة بالآخرين من المجتمعات المحلية والمؤسسات الحكومية بالإضافة إلى كونها أكثر المؤسسات الحكومية مشاركة مع القطاع الخاص. على المستوى الوظيفي لأبناء المجتمع في قطاع السياحة يجب أن تسعى المؤسسات السياحية الحكومية والخاصة إلى إحداث تحول في الأدوار التقليدية لأبناء المجتمع (سواء الذكور أو الإناث) وخصوصا الكيفية التي يقبلون بها على العمل في صناعة السياحة وإذا لم يحدث ذلك فستكون قدرة السياحة محدودة لإحداث التغيير لصالح صناعة السياحة في المجتمع. صناعة السياحة كثقافة يجب أن تتخلص من ربطها بمفاهيم خاطئة كما يجب وضع حد للكيفية التي تعرّف بها السياحة، لذلك يجب أن يدرك المجتمع أن السياحة مصدر اقتصادي يدير حركة اقتصادية ضخمة فهناك دول تقود العالم اقتصاديا وسياسيا وعسكريا تمثل السياحة فيها المصدر الرئيس لعجلتها الاقتصادية. فعلي سبيل المثال تشكل السياحة 40% من دخل مقاطعة واحدة في استراليا وقس على ذلك تلك الدول التي يزورها سنويا عشرات الآلاف من السياح. ولعلي هنا استعير تلك العبارة التي أطلقها سمو الأمين العام للهيئة العليا للسياحة عندما وصف السياحة بأنها (جمرة) وأقول هي فعلا جمرة ثقافية واجتماعية بجانب كونها جمرة اقتصادية. السياحة في مجتمعنا كما أراها ومن خلال برامجها سوف تسهم في رسم تصور جديد عن المشاركة المجتمعية وسوف تمنح المجتمعات المحلية الفرصة الأكبر لتحقيق النمو بالاعتماد كليا على تلك المجتمعات سواء بالتخطيط أو التنفيذ أو التمويل. أعدكم بأنني لن اكتب عن السياحة قريبا، ولكنني سوف أعيد نشر هذا المقال مرة أخرى بعد عقد من الزمن إن شاء الله فلازلت أراهن على هذه الصناعة التي سوف تحقق نجاحات غير متوقعة في مجتمعنا ولننتظر سويا.