مجموعة "بريكس" تتطلع - بحسب بيانها - لإصلاح النظام العالمي القائم بما يساهم في تحقيق العدالة السياسية في المجتمع الدولي، وبما يساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات النامية والناشئة، وبما يعزز التجارة العالمية على أسس العدالة والنزاهة. عندما نتحدث عن النظام العالمي، أو البنيان الدولي، فإننا نتحدث عن مفهوم رئيس وعريض وواسع له أسسه وقواعده وفرضياته ونظرياته في علم العلاقات الدولية أحد أفرع العلوم السياسية. وهذا يعني، أن أية حديث جاد عن نظام عالمي جديد يجب أن يقوم على أسس وقواعد صلبة، وينطلق من فرضيات ونظريات رصينة تساعد المتحدث في توقع المستقبل بشكل دقيق، وتمكن المسؤول من التنبؤ الصحيح والبناء القادر على خدمة الأهداف والغايات والاستراتيجيات على المدى البعيد، فإذا أدركنا أهمية هذه المنطلقات العلمية والفكرية عند الحديث عن المفاهيم الرئيسة في العلاقات الدولية ومنها مفهوم النظام العالمي، فإننا نجد أنفسنا أمام حقائق تختلف تماماً عن ما يتحدث به العامة من تحليلات أقرب للأمنيات والرغبات منها للبناء على أسس علمية، ونجد أنفسنا أمام واقع وسياسات قائمة تتناقض تماماً مع التطلعات والتوجهات الشخصية المبنية على التأثر بالأيديولوجيات المناهضة للإيديولوجيات المهيمنة على أرض الواقع، ونجد أنفسنا أمام طروحات متقدمة وتصورات متفائلة تفوق قدرات الأطراف المتطلعة لتغيير الواقع وترهق سياساتهم وتستنزف أوقاتهم بما يؤثر سلباً على مكانتهم الدولية بين المجتمعات ويظهرهم بشكل أكثر ضعفاً أمام الرأي العام حال عدم تمكنهم من تلبية أمنياتهم ورغباتهم وتطلعاتهم المبنية على أسس هشة وقواعد سطحية. نعم، إن الحديث أو التحدث عن قضايا رئيسة في محيط المجتمع الدولي ومفاهيمه الواسعة والعريضة أمر غاية في التعقيد والتركيب كون عناصره متعددة وعوامله مختلفة وحساباته متعدية بحيث يصعب على العامة حصرها أو تصنيفها أو الإلمام بها، مما يؤدي أو يقود لوضع توصيات قد تكون معاكسة تماماً للواقع القائم، أو رسم استراتيجيات تتناقض تماماً مع الحقائق القائمة، ما يعني الوصول لنتائج مختلفة تماماً عما كان يُخطط لها أو يتوقع الوصول إليها. وإن الذي يدعونا للإشارة إلى أهمية الأخذ بالأسس والقواعد العلمية الرصينة عند الحديث عن شؤون المجتمع الدولي هو التصاعد المتسارع للحديث عن بروز نظام عالمي جديد على حساب القطبية الأحادية للولايات المتحدة، أو التغير المتوقع والقريب للنظام العالمي القائم لنظام عالمي متعدد الأقطاب. وقد يكون هذا الحديث عن النظام العالمي الجديد قائماً منذ عدة سنوات عندما برزت جمهورية الصين الشعبية كقوة اقتصادية كبيرة على الساحة العالمية، بالإضافة للأصوات الأخرى القائلة: إن جمهورية روسيا الاتحادية أيضاً قادرة على لعب هذا الدور لقدراتها وإمكاناتها وتاريخها الإمبراطوري والاستعماري، إلا أن هذا الحديث تصاعد كثيرا مُنذُ بداية الصراع الروسي - الأوكراني في فبراير 2022م، ليستمر ويزداد خاصة عند عقد قمة لمجموعة "بريكس" ومنها القمة الخامسة عشرة لقادة المجموعة التي عقدت بمدينة جوهانسبرج في جمهورية جنوب إفريقيا في الفترة من 22 - 24 أغسطس 2023م. نعم، لقد ازداد حديث العامة كثيراً عن نظام عالمي جديد تقود فكرته مجموعة "بريكس، وتعيد تشكيلة مجموعة "بريكس"، وترسم خطوطه العريضة والدقيقة مجموعة "بريكس"، وتسمي أطرافه والقوى المؤثرة فيه مجموعة "بريكس"، وتسمي عملته وتوجه اقتصاداته مجموعة "بريكس"، وغيرها من طروحات وآراء وتوجهات هدفها الرئيس رؤية نظام عالمي جديد أياً كان شكله ومسماه وأطرافه، وغايتها النهائية تغير القطبية الأحادية الأمريكية وازاحتها من الهيمنة العالمية. وتفاعلاً مع هذه الأحاديث المُتصاعدة حول سعي أو قدرة مجموعة "بريكس" على تغير النظام العالمي أحادي القطبية الأمريكية القائم مُنذُ 1991م إلى نظام عالمي مُتعدد الأقطاب، يأتي التساؤل القائل: هل تتطلع مجموعة "بريكس" لتغيير النظام العالمي أحادي القطبية الأمريكية إلى نظام عالمي جديد؟ وهل تستطيع مجموعة "بريكس" تغيير النظام العالمي أحادي القطبية الأمريكية إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب؟ إن الإجابة عن هذه التساؤلات المُباشرة، والوصول لإجابات هادفة ومنطقية وعقلانية، يتطلب الابتعاد تماماً عن الأمنيات والرغبات الشخصية، كما يتطلب عدم التأثير بالتوجهات الأيديولوجية والشعارات العاطفية. نعم، لتكون الإجابات عن التساؤلات بناءة وهادفة ومحايدة، يجب أن تبنى على مصادر موثوقة وأسس علمية رصينة وصحيحة. فإذا استندنا على المصادر الموثوقة للإجابة على رؤية مجموعة بريكس للنظام العالمي، فإننا، وبعيداً عن استعراض تاريخ نشأتها وأهدافها وتوجهاتها، نستند للبيان الختامي لقمة "بريكس" الخامسة عشرة بمدينة جوهانسبرج في جمهورية جنوب إفريقيا. فبحسب ما نشر موقع الوكالة الروسية "سبوتنيك عربي" في 24 أغسطس 2023م، فقد تضمن البيان الختامي الآتي: "أعرب قادة مجموعة "بريكس" في بيانهم الختامي، عن قلقهم بشأن استخدام التدابير الأحادية الجانب التي تؤثر سلبًا على الدول النامية، وأيد قادة مجموعة "بريكس" إجراء إصلاحات في الأممالمتحدة بما في ذلك مجلس الأمن، من أجل إضفاء المزيد من الديمقراطية والفعالية على المنظمة. (و) إننا نعرب عن قلقنا إزاء استخدام التدابير القسرية الانفرادية، التي لا تتفق مع مبادئ ميثاق الأممالمتحدة وتؤدي إلى عواقب سلبية خاصة في البلدان النامية. (و) نؤكد من جديد التزامنا بتعزيز وتحسين الحوكمة العالمية من خلال تشجيع نظام أكثر مرونة وفعالية وكفاءة، نظام دولي متعدد الأطراف ديمقراطي وخاضع للمساءلة. (و) نؤكد من جديد أن الانفتاح والكفاءة والاستقرار والموثوقية ضرورية لمعالجة الانتعاش الاقتصادي وتحفيز التجارة والاستثمار الدوليين. وندعو إلى مزيد من التعاون بين دول "بريكس" لتعزيز الترابط بين سلاسل التوريد وأنظمة الدفع من أجل تحفيز تدفقات التجارة والاستثمار. (وأن) قادة مجموعة "بريكس" يؤكدون دعمهم لإرساء نظام للتجارة الدولية مفتوح ونزيه وقائم على قواعد منظمة التجارة العالمية." وبالإضافة لما جاء في هذا الجزء من البيان، فقد تضمن الخبر الذي نشر في موقع الوكالة الروسية "سبوتنيك عربي" في 25 أغسطس 2023م الآتي: "دعت قمة "بريكس" إلى الحفاظ على نظام تجاري متعدد الأطراف مفتوح وشفاف وعادل يمكن التنبؤ به، وشامل ومنصف وغير تمييزي، وقائم على القواعد، وفي جوهره منظمة التجارة العالمية. وأعربت المجموعة عن قلقها إزاء التدابير غير القانونية الأحادية الجانب التي تؤثر على التجارة، معلنة عن الحاجة إلى إنشاء نظام تجاري زراعي عادل وموجّه نحو السوق، من شأنه أن يساعد في القضاء على الجوع وتحقيق الأمن الغذائي. (و) ندعو إلى إصلاح مؤسسات معاهدة بريتون وودز، من ضمنه منح دور أكبر للأسواق الناشئة والبلدان النامية، بما في ذلك في المناصب القيادية في مؤسسات بريتون وودز، بما يعكس دور الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية في الاقتصاد العالمي." وجاء في الخبر أن "اتفاقية بريتون وودز، في 22 يوليو / تموز 1944، في الولاياتالمتحدة، هي اتفاقية بين الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، من أجل إنشاء نظام أسعار صرف العملات الخاصة بالدول المتقدمة؛ وبموجب الاتفاقية أصبح الدولار الأمريكي عملة الاحتياطي الدولي. ونتج (عنها) إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاتفاقية العامة للتعرفة." وانطلاقاً مما تضمنته هذه المصادر الموثوقة، فإننا نستطيع القول: إن الرؤية والتوجه التي عبر عنها البيان الختامي لقمة مجموعة "بريكس" يتضمن الرغبة في إصلاح النظام العالمي القائم وليس تغيره، وهذا الإصلاح أشار له البيان بشكل مباشر في جوانبه السياسية والاقتصادية والتنموية والتي أسس لها وبناها المجتمع الغربي - وخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية. نعم، هذا الذي يمكن فهمه وتفسيره واستنتاجه مما جاء في البيان الختامي بشكل صريح ومباشر بعيداً تماماً عن التحليلات والأمنيات والرغبات والتطلعات والتوجهات بمختلف مستوياتها وطروحاتها. وفي الختام من الأهمية القول إن مجموعة "بريكس" تتطلع، بحسب بيانها، لإصلاح النظام العالمي القائم بما يساهم في تحقيق العدالة السياسية في المجتمع الدولي، وبما يساهم في تحقيق التنمية الاقتصادية في المجتمعات النامية والناشئة، وبما يعزز التجارة العالمية على أسس العدالة والنزاهة. نعم، إن تغيير النظام العالمي يتعدى تماماً الأمنيات والرغبات والتطلعات والتصريحات لمسائل أخرى أكثر تعقيداً منها المتعلق بالاستقرار السياسي والقدرات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والموارد البشرية والطبيعية، ومنها المتعلق بمستوى التطور والتقدم والبناء المجتمعي، مما يعني أن المسألة غاية في التعقيد والتركيب، فإذا كانت المسألة كذلك بالنسبة للدول، فإنها تكون أصعب بالنسبة للدول مجتمعة خاصة إذا كانت مختلفة بتوجهاتها الأيديولوجية والفكرية، ومختلفة بنظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومتفاوتة بقدراتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية، ومتطلعة لزيادة نفوذها ومكانتها الدولية لتنافس وحيدة على القطبية العالمية.