من بين المعاني اللغوية التي تحيل إليها مادة (ف ر س)، النظر والتثبت والتأمل للشيء والبصر به، ومنها (الفراسة) التي تعني القدرة على معرفة أحوال البشر من الملامح أو الحركات، فهل يمكن أن تكون هذه الفراسة لمعرفة أحوال ما يكتب البشر؟ فما يجمع الحالتين، اشتراكهما في فهم بعض بواطن الأمور التي قد تكون مخالفة للظاهر منها. ولعل (العنوان) أول عتبة تدل على المكتوب، وكما يستدل بالفراسة على الإنسان وأخلاقه وأمزجته وسماته الخفية؛ فإنه يستدل على المتن أو المحتوى بفراسة نصية من وسمه الأول الذي يعتليه، ليكشف محتواه ودلالاته الخفية. وفي اللغة، العنوان سمة للكتاب واسمه وعلامته، فهو بذلك وسم للنص وتمييز له عن النصوص الأخرى، وعلامة دالة عليه ومعينة له؛ لذا، يكون من منطلقات القراءة المهمة التي لا تخاطب القارئ الناقد فحسب، بل الجمهور الذي يتعامل مع الكتاب من قارئ فعلي أو ناشر أو بائع أو حتى قارئ عابر صافحت عيناه العنوان، فصرفتاه عن المتن. هذه الفراسة، إن ارتبطت بالفطنة والذكاء على الأغلب، لا تعدم وجود عوامل أخرى تساعد على استحضارها، كما في: المرور بتجارب كتابية سابقة، أو الوقوف على حالات معينة، أو استقراء للمشهد العام، أو جله، أو مقارنة بعض العناوين ذات الصيغ المبالغ فيها مع أخرى أوجزت فأبلغت، وأوضحت فأفهمت، وتجانست مع مضمونها بطريقة ما، وإن اختلفت القراءات بعد ذلك حولها. وإذا كانت الفراسة في عمومها تتعامل مع تواصل غير لفظي، إلا أنها يمكن أن تطول التواصل اللفظي أيضًا، كما في تحليل الخطوط والأشكال والتوقيع وغيرها، ويمكن أن يُستثمر هذان البعدان في العناوين؛ ليُستدل بالعلامات الظاهرة فيها من ألفاظ وتراكيب ودلالات معجمية مباشرة وأخرى سياقية وشكلية، على تلك الدلالات الخفية. وإذا كنا عادة لا نفترض علاقة مباشرة بين العنوان والنص، ولا سيما في الكتابات الإبداعية؛ إذ تحتمل هذه العلاقة وجوهًا كثيرة من تفسير وتوسيع وتكملة ومفارقة وتكرار وحديث عن الميتا سرد أو حتى وجود نفور بينهما، فإن عناوين الكتب والأبحاث والأنشطة العلمية تظل موضع تساؤل حول إمكانية تحقق هذه العلاقات كلها بينها وبين المتن. ولعل مقولة (الكتاب باين من عنوانه) تسعفنا في النظر إلى بعد مختلف للعلاقة بين العنوان والمتن؛ إذ تحتمل دلالات كثيرة، وعني أنا، تجذبني العناوين اللافتة، ليس على مستوى الكتب والأبحاث وإنما في الأنشطة عامة، لكني -أحيانًا- أتوجس خيفة من العنوان الذي يتلاعب صاحبه في كلماته وحركاته كثيرًا، وغالبًا أجد المحتوى فارغًا، أو لا يتجانس مستواه مع هذا العنوان البديع! لذا تسلمنا الفراسة في مثل هذه الحالات إلى تكوين فكرة عامة ومتكررة حول هكذا عناوين، مع ما فيها من إثارة وقوة جذب، إلا أنها تحلق بالقارئ عاليًا ثم تهوي به سريعًا إلى متن مخيب للآمال ومعها القراءات. *مصطلح (الفراسة) جاء في تعليق أحد المتابعين مستعملًا (الفراسة الثقافية) على تغريدة كتبتها بهذا الشأن.