كتاب بريد الذكريات للكاتبة والرسامة الكولومبية إيما رييس تسرد مذكراتها في ثلاث وعشرين رسالة عن طفولتها حتى سن المراهقة. وشجعها على الكتابة الكاتب "غابريل ماركيز" بعد قراءته وإعجابه برسائلها. عاشت إيما طفولتها ما بين تنفيذ الأوامر وبين الخدمة والأعمال الشاقة التي قد تستمر لمدة عشر ساعات متواصلة! تمر الأحداث بمرحلتين الأولى عن حياتها مع اختها إيلينا والسيدة ماريا في غرفة مظلمة بلا شبابيك مع الأعمال الشاقة التي كانت تقوم بها وكيف كانت تعاملهم السيدة ماريا ففي هذه الفترة تعلمت إيما ولأول مره معنى الظلم والفقد! تبدأ المرحلة الثانية بعد وضع إيما وايلينا في دار مع الراهبات وهذه المرحلة طويلة الأحداث والوصف فتسرد معاناتها مع التنمر من فتيات الدار وكيف كانت حياتها أيضاً تعلمت ما الفرق بين الطبقات والمستويات المعيشية والكثير من الطقوس الدينية التي جعلتها تتمنى أن تصبح راهبة. أتقنت إيما مهارتي الرسم والتطريز وأبدعت فيها وهذا ما ميزها في الدار وما صقل هواية الرسم عندها. وعند مشاهدة رسوماتها نجد فيها بعضاً من الطفولة. عاشت إيما رييس حياة غير مستقرة، لكنها تميزت بذاكرة مدهشة تجاه تفاصيل حياتها منذ أن كانت في الخامسة من عمرها، وفسرت ذلك في إحدى رسائلها بقولها: "قد تعجب لقدرتي على سرد تفاصيل الحوادث التي جرت في تلك الحقبة البعيدة كل البعد، بهذا القدر من الدقة، وأوافقك في ما ذهبت إليه، ذلك أن طفلاً في الخامسة من العمر لن يتذكر طفولته لاحقاً بمثل هذا الوضوح، ما دام قد عاش حياة طبيعية، أما أنا وإيلينا فنذكر طفولتنا وكأنها كانت اليوم، وليس في وسعي أن أشرح لك السبب، لم تغب عنا تفصيله واحدة لا اللفتات ولا الكلمات ولا الألوان، بل يبدو لنا كل شيء جلياً". غادرت إيما الدير وهي في الثامنة عشر من العمر تقريباً، لا تجيد القراءة ولا الكتابة، ولا تملك من الخبرة أكثر مما تعلمت في مشغل التطريز، ومع ذلك، بدأت رحلة طويلة عبر شتى بلدان أمريكا الجنوبية، رحلة قطعتها سيراً على القدمين، وبالحافلة، وبالقطار، وكيفما اتفق، حتى وصلت إلى الأرجنتين سنة 1943م. عند ذاك بدأت ترسم، وحصلت على منحة دولية للدراسة في باريس، غير أنها لم تقدر على تحمل تكاليف الرحلة، فعرضت أن تزين جدران السفينة بالرسوم وهي في طريقها عبر المحيط الأطلسي نظير ثمن الرحلة، وفي باريس، سطع نجمها وصارت فنانة تشكيلية ذائعة الصيت، على اتصال بنخبة المثقفين والمفكرين من أمثال الفيلسوف جان بول سارتر والكاتب ألبرتو مورافيا والمخرج والشاعر بيير باولو بازوليني، وغيرهم الكثيرين. كما اقترن بها لقب "الأم الكبيرة" (ماما غراندي)، ذلك الذي أطلقه عليها الفنانون الكولومبيون ممن شملتهم برعايتها ودعمها حتى رحلت عن عام 2003م في مدينة بوردو. وفي الأخير، فإن السيرة تمتلئ بالصور والمشاهد الإنسانية التي تنم عن حكاءة ذات قدر كبير من البراعة في السرد، حكايات عن معاناة الإنسان وسط ظروف في غاية القسوة، عن فتاتين صغيرتين تركتا وسط عالم متوحش إلا أنهما في النهاية استطاعتا النجاة وخلق حياة أفضل. هو كتاب مذهل، شاعريته مؤلمة ومؤثرة، حقيقي إن أكثر جوانب هذا الكتاب عمقًا هي قدرة رييس على الاحتفاظ بمنظور الطفلة بدقة بالغة بعد مرور تلك السنوات، ذلك أنها ما زالت ترى بعيني الصغيرة التي كانتها، بكل ما فيها من دهشة وعفوية، فنجدها على سبيل المثال، تحكي قصة ميلاد يسوع المسيح التي قرأتها عليها إحدى راهبات الدير، ولكن من منظور طفلة لم يتجاوز عمرها بضعة أعوام، فتقول: "ذات يوم روت لنا حكاية الطفل الذي يدعى يسوع، وأمه التي تدعى مريم، لم يكن لهما بيت يسكنان فيه، ولذا اضطر الطفل يسوع إلى الميلاد في بيت يملكه حمار وبقرة". وما يجبُ الإشارة إليه هو أنَّ إيما تدركُ من خلال متابعتها أنّ السلطة ستكون لصاحب الامتيازات حتى داخل المعابد الدينية. خالد المخضب