إن التاريخ البشري على مر العصور الماضية والحاضرة ليس تاريخ أحداث سياسية واجتماعية محضة، بل هو تاريخ الذات أيضاً، تاريخ لا ينفصل عن الواقع، تكون الذات فيه ذاتاً مستقلة ابتدعتها مخيلة الكاتب لاستكمال صورة ناقصة في ديمومته الحياتية، ذاتاً ممتلئة بالتجارب والأفكار والأحاسيس، وهذا ما يؤكد لنا أن فن السيرة في الأدب العربي جمع بين التاريخ وبين الشخصية وذاتها، فكما يقول علماء النفس والاجتماع "إن السيرة الذاتية تمنح المؤلف فرصة إعادة رسم تاريخه الخاص"، وبذلك أصبحت السيرة برموزها وأحداثها مادة صريحة للكتابة. إن السيرة في التعريف الأدبي هي: نوع من الأدب، يجمع بين التحري التاريخي ويُراد به مسيرة حياة إنسان، ورسم صورة دقيقة لشخصيته أو نعني بها الطريقة والسنة، ومن ذلك قول خالد بن زهير: "فلا تجزعن من سنة أنت سرتها // فأول راض سنة من يسيرها"، والسيرة ذات دلالات بعيدة المدى عميقة التكوين، ويشير فابيروا في المعجم الكوني للأدب بقوله: "إن السيرة الذاتية عمل أدبي، رواية، سواء كان قصيدة أم مقالة فلسفية قصد المؤلف فيها بشكل ضمني أو بشكل صريح رواية حياته وعرض أفكاره"، ومن هنا يأتي السؤال الأهم، إلى أي حد يمكن أن يكون الكاتب صادقاً مع ذاته في كتاباته؟ فالصدق الخالص أمر مستحيل، والحقيقة الذاتية صدق نسبي كما أشار إلى ذلك إحسان عباس. قد تصنع التابوهات الاجتماعية نوعاً من الرقابة وقمعاً للإبداع الأدبي في فن السيرة الذاتية، فتنزوي الآفاق الشخصية والقناعات الفكرية بهواجسها ومخاوفها في دوامات الظل والتردد، ويرزح الكتّاب تحت منهجية الأداء التقليدي السطحي مُجرد المضمون من عمقه التحليلي، كمن يكتب تقريراً ما أو يسجل الأحداث هكذا مجردة من رؤى الحقيقة الغائبة، وهكذا تكاد السيرة تنعدم وتغيب بين البوح الصريح وسلطوية التابوهات الاجتماعية، منعاً لإظهار المكتوم بخصوصيتها الفردية وشموليتها العامية، وفي أغلب الأحيان يبدو بطل السيرة شبحاً قابعاً داخل النص الأدبي يمثل الكاتب من خلاله مرجعياته ورمزيته بتقمصه لأدوار مختلفة من دون المساس بجوهره الشخصي. إن سرد الذاكرة –المرويات– والمذكرات الشخصية مكوناً للهوية الفردية أو الجماعية، وهي خزانة لا تنضب، تغذي روائع الأدب ومجالاته المتعددة، وتغوص في عمق نفسي أو مجتمعي، وقد تلتقي السيرة الذاتية وتتقاطع مع أنواع مشابهة لها رغم اختلاف غاياتها الأدبية كاليوميات والمذكرات والاعترافات والقصة والرواية، حيث نجد أن أول كتاب في السير الحديثة الذي لا يتسابق معه كتاب آخر في أدبنا العربي كتاب (الأيام) لطه حسين، فقد امتاز ببراعة القصص والذكاء الكتابي في سرد الأحداث والأسلوب الجيد الملهم للكثيرين أمثال (نجيب محفوظ)، حيث كتب سيرة حياته على طريقة عميد الأدب وأسماها (الأعوام)، وكذلك تأثر أحمد أمين بكتاب الأيام، ويُعدّ كتاب (طوق الحمامة في الألفة والآلاف) لابن حزم الأندلسي من أروع الكتب في السكب التاريخي التفصيلي للأحداث. وعلى سبيل الذكر لا الحصر نشير إلى أهم كتب السير في العمق والذاتوية منها محمد شكري (الخبز الحافي)، وجبرا إبراهيم حبرا (البئر الأول)، ومريد البرغوثي (رأيت رام الله)، ومحمد القيسي في كتابه (ثلاثية حمدة)، وكل على مذهبه، منهم من يمزج بين الواقع والخيال، ومنهم من يكتب اعترافاته الشخصية بصورة مستقلة. وتلعب السيرة دوراً كاشفاً عن حضور مركزي للموروث الحضاري والثقافي للشعوب، وجُرأة لتعرية إنثروبولوجية عبر المعنى والفكر والخطاب، وغاية الأمر أن السيرة الذاتية عبرت العصور، وتغيرت في الأسلوب والمضمون والموضوع، لتصف الحياة الخاصة والعامة.